الــحـــجــاج بن يوسف الثقفي : ايجابياته وسلبياته وشهادات فيه

لادئاني

مراسلين المنتدى
إنضم
28 مارس 2013
المشاركات
25,052
التفاعل
30,391 0 0

الايجابيات:
=====


كان الحجاج بن يوسف الثقفي والياً على العراق من قِبل عبد الملك بن مروان وثم الوليد ..

1-الحجاج نشأ شابا لبيبا فصيحا بليغا حافظا للقرآن ، قال بعض السلف : كان الحجاج يقرأ القرآن كل ليلة ، وقال أبو عمرو بن العلاء : "ما رأيت أفصح منه ومن الحسن البصري ، وكان الحسن أفصح منه" .

وقال عقبة بن عمرو : "ما رأيت عقول الناس إلا قريبا بعضها من بعض ، إلا الحجاج وإياس بن معاوية ، فإن عقولهما كانت ترجح على عقول الناس"البداية والنهاية - ----(9/138-139) .


2-قال ابن كثير : ""وكانت فيه شهامة عظيمة وقد روينا عنه أنه كان يتدين بترك المسكر ، وكان يكثر تلاوة القرآن ، ويتجنب المحارم ، ولم يشتهر عنه شيء من التلطخ بالفروج ،


3- وقد كان الحجاج حريصا على الجهاد وفتح البلاد ، وكان فيه سماحة بإعطاء المال لأهل القرآن ، فكان يعطي على القرآن كثيرا ، ولما مات لم يترك فيما قيل إلا ثلاثمائة درهم " انتهى ......."البداية والنهاية" (9/153)


4- قال الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء : وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء ، وفصاحة وبلاغة ، وتعظيم للقرآن .


5- أمر الحجاج بتنقيط القرآن الكريم وقسمه الى أجزاء ثلث وربع وخمس ونصف وتعريب الدواوين من الفارسية والرومية الى العربية


6- كان حريصا على الجهاد وفتح البلاد واختيار القادة الأكفاء لذلك مثل قتيبة بن مسلم الباهلي (( فتح بخاري وسمرقند وخوارزم و بلخ وكاشغر ...)) ومحمد بن القاسم الثقفي الذي فتح بلاد السند وماحولها وقنوج ....

وكان الحجاج يقول لأمراء الفتوح : سيروا فأنتم أمراء على ما افتتحتم ...وكتب الى الباهلي والثقفي يحثهما على فتح الصين : أيكما سبق الى الصين فهو اميرها


7- كان بعض الصحابة كأنس وابن عمر يصلون خلفه


8-كان كريماً و رائداً من رواد الحزم والاصلاح والزهد والتقوى وذو شجاعة ومروءة واقدام ومكر وحفظ أركان الدولة الأموية وقمع كل الفتن وقاتل الخوارج وكل الحركات الهدامة للاسلام


9- منع الحجاج النياح على الموتى وقتل الكلاب الضالة ومنع توسيخ الأماكن العامة ومنع بيع الخمور وقام باتلاف الخمور وبنى الجسور


10- أنشأ الصهاريج قرب البصرة لتخزين المياه وجمع مياه الأمطار لتكون مياه شرب لحجاج بيت الله الحرام وحفر الآبار في الأماكن المنقطعة


11- بنى مدينة واسط بالعراق


12- كان يختار حكام الشرق من ذوي الكفاءة والخبرة ويراقبهم ويمنع تجاوزاتهم


13- ضرب على أيدي اللصوص وقطاع الطرق


14- أصلح حال الزراعة بالعراق وحفر الأنهار والقنوات وأحيا الأراضي الزراعية المتروكة


15- اهتم بالفلاحين ووفر لهم الدواب لمهمة الحرث
 



السلبيات:
===


1- كان معروفاً بالظلم وسفك الدماء وانتقاص السلف وتعدي حرمات الله بأدنى شبهة ، وقد أطبق أهل العلم بالتاريخ والسير على أنه كان من أشد الناس ظلما ، وأسرعهم للدم الحرام سفكا ، ولم يحفظ حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه ، ولا وصيته في أهل العلم والفضل والصلاح من أتباع أصحابه ، وكان ناصبيا بغيضا يكره علي بن أبي طالب رضي الله عنه وآل بيته . وحصاره لابن الزبير بالكعبة ثم قتله وصلبه ، ورميه إياها بالمنجنيق ، وإذلاله لأهل الحرمين ، ثم ولايته على العراق والمشرق كله عشرين سنة ، وحروب ابن الأشعث له ، وتأخيره للصلوات إلى أن استأصله الله .


2- قال ابن كثير: "كان ناصبيا يبغض عليا وشيعته في هوى آل مروان بني أمية ، وكان جبارا عنيدا ، مقداما على سفك الدماء بأدنى شبهة .
وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة ظاهرها الكفر ، فإن كان قد تاب منها وأقلع عنها ، وإلا فهو باق في عهدتها


3-عن أسماء بين أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت للحجاج : (أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا ، فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ).
والمبير : المهلك ، الذي يسرف في إهلاك الناس .

4- قال ابن كثير: وكان في سيفه رهق ، وكان كثير قتل النفوس التي حرمها الله بأدنى شبهة ، وكان يغضب غضب الملوك" انتهى


5- كان فيه سرف وإسراع للباطل ، مع لجاجة في الحقد والحسد .

فعن عاصم بن أبي النجود والأعمش أنهما سمعا الحجاج يقول للناس : "والله ولو أمرتكم أن تخرجوا من هذا الباب فخرجتم من هذا الباب لحلت لي دماؤكم ، ولا أجد أحدا يقرأ على قراءة ابن أم عبد إلا ضربت عنقه ، ولأحكنها من المصحف ولو بضلع خنزير" .


6- وقال الأصمعي : قال عبد الملك يوما للحجاج : ما من أحد إلا وهو يعرف عيب نفسه ، فصف عيب نفسك . فقال : أعفني يا أمير المؤمنين ، فأبى ، فقال : أنا لجوج حقود حسود . فقال عبد الملك : إذاً بينك وبين إبليس نسب . ....البداية والنهاية - (9 /149- 153) .


7- فعن قتادة قال : قيل لسعيد بن جبير : خرجت على الحجاج ؟ قال : إني والله ما خرجت عليه حتى كفر .


8-وقال الأعمش : اختلفوا في الحجاج فسألوا مجاهدا فقال : تسألون عن الشيخ الكافر. ..."البداية والنهاية" (9 /156- 157) .


9-وقال الشعبي : الحجاج مؤمن بالجبت والطاغوت كافر بالله العظيم .


10- وقال القاسم بن مخيمرة : كان الحجاج ينقض عرى الإسلام .


11-وعن عاصم بن أبي النجود قال : ما بقيت لله تعالى حرمة إلا وقد انتهكها الحجاج . ..."تاريخ دمشق" (12 / 185-188) .


12- وروى الترمذي في سننه (2220) عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ قَالَ : " أَحْصَوْا مَا قَتَلَ الْحَجَّاجُ صَبْرًا فَبَلَغَ مِائَةَ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ قَتِيلٍ " .


13- وقال عمر بن عبد العزيز : لو تخابثت الأمم وجئتنا بالحجاج لغلبناهم ، وما كان يصلح لدنيا ولا لآخرة . "تاريخ دمشق" (12/185).


14- وكان مضيعا للصلوات ، مفرطا فيها ، لا يصليها لوقتها :

كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة : بلغني أنك تستن بسنن الحجاج ، فلا تستن بسننه ، فإنه كان يصلي الصلاة لغير وقتها ، ويأخذ الزكاة من غير حقها ، وكان لما سوى ذلك أضيع " . ...."تاريخ دمشق" (12 / 187) .


15- قال الذهبي رحمه الله :" كان ظلوما جبارا ناصبيا خبيثا سفاكا للدماء .


16- كان مذهبه تكفير الخارج على السلطان واخراجه من الملة

17- كانت لديه جرأة شديدة على بعض الصحابة : جاء بتاريخ الخلفاء وفي سنة 74 هجرية سار الحجاج للمدينة وأقام بها ثلاثة أشهر يتعنت أهلها، واستخفّ ببقايا الصحابة كأنس بن مالك وجابر بن عبدالله وسهل بن مالك الساعدي ،
 

شهادة ابن كثير فيه (( البداية والنهاية )):
======



قال ابن كثير رحمه الله :

"كان ناصبيا يبغض عليا وشيعته في هوى آل مروان بني أمية ، وكان جبارا عنيدا ، مقداما على سفك الدماء بأدنى شبهة .

وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة ظاهرها الكفر ، فإن كان قد تاب منها وأقلع عنها ، وإلا فهو باق في عهدتها ، ولكن قد يخشى أنها رويت عنه بنوع من زيادة عليه ، فإن الشيعة كانوا يبغضونه جدا لوجوه ، وربما حرفوا عليه بعض الكلم ، وزادوا فيما يحكونه عنه بشاعات وشناعات" .

"وكانت فيه شهامة عظيمة ، وفي سيفه رهق ، وكان كثير قتل النفوس التي حرمها الله بأدنى شبهة ، وكان يغضب غضب الملوك" .


"وقد روينا عنه أنه كان يتدين بترك المسكر ، وكان يكثر تلاوة القرآن ، ويتجنب المحارم ، ولم يشتهر عنه شيء من التلطخ بالفروج ، وإن كان متسرعا في سفك الدماء ، فالله تعالى أعلم بالصواب وحقائق الأمور وساترها ، وخفيات الصدور وضمائرها .

وأعظم ما نقم عليه وصح من أفعاله سفك الدماء ، وكفى به عقوبة عند الله عز وجل ،


قد ذهب جماعة من الأئمة إلى كفره ـ وإن كان أكثر العلماء لم يروا كفره ـ وكان بعض الصحابة كأنس وابن عمر يصلون خلفه ، ولو كانوا يرونه كافراً لم يصلوا خلفه .


 

شهادة الامام الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء:
=========



وقال الذهبي رحمه الله :

" كان ظلوما جبارا ناصبيا خبيثا سفاكا للدماء .

وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء ، وفصاحة وبلاغة ، وتعظيم للقرآن .

قد سقت من سوء سيرته في تاريخي الكبير ، وحصاره لابن الزبير بالكعبة ، ورميه إياها بالمنجنيق ، وإذلاله لأهل الحرمين ، ثم ولايته على العراق والمشرق كله عشرين سنة ، وحروب ابن الأشعث له ، وتأخيره للصلوات إلى أن استأصله الله .

فنسبه ولا نحبه ، بل نبغضه في الله ؛ فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان .

وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه ، وأمره إلى الله .


وله توحيد في الجملة ، ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء " انتهى .

"سير أعلام النبلاء" (4 / 343) .



وبالجملة : فقد كان الرجل على درجة كبيرة من الظلم والعدوان ، والإسراف على نفسه .

وكانت له حسنات مغمورة في بحر سيئاته ، وكان له جهد لا ينكر في الجهاد وقتال أعداء الله وفتح البلاد ونشر الإسلام .

فالله تعالى حسيبه ، ونبرأ إلى الله تعالى من ظلمه وعدوانه ، ونوالي من عاداهم من سادات المسلمين من الصحابة والتابعين ، ونعاديه فيهم ، ونكل أمره إلى الله تعالى .
 

قال عنه الحسن البصري :

إن الحجاجَ عذابُ اللهِ ، فلا تدفعوا عذابَ اللهِ بأيديكم ، و لكن عليكم بالاستكانةِ والتضرعِ ،

فإنه تعالى يقول : " وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ " [ المؤمنون :76] .
 

أن الحجاج عندما اشتدت عليه العلة عمل على تدبير شؤون العراق من بعده بما يحفظه من الاضطراب والفتن ، و يبقيه جزءً من الدولة الأموية ، حتى إذا اطمأن إلى ذلك كتب وصيته ليبرئ فيها نفسه و ذمته تجاه خالقه وخليفته المسؤول أمامه في الدنيا حتى آخر لحظة من حياته ، فكتب يقول :

بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصى به الحجاج بن يوسف : أوصى بأنه يشهد أن لا إليه إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده و رسوله ، وأنه لا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك ، عليها يحيا و عليها يموت و عليها يبعث .. الخ . تهذيب تاريخ دمشق (4/68 ) .

و يروى أنه قيل له قبل وفاته : ألا تتوب ؟ فقال : إن كنت مسيئاً فليست هذه ساعة التوبة ، وإن كنت محسناً فليست ساعة الفزع . ...محاضرات الأدباء (4/495 ) .


و قد ورد أيضاً أنه دعا فقال : اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل . تاريخ دمشق (4/82) . والبداية والنهاية (9/138) .


ونقول للذين يطعنون في نيات الناس اسمعوا إلى قول الحسن البصري رحمه الله حينما سمع أحد جلاسه يسب الحجاج بعد وفاته ، فأقبل مغضباً و قال : يا ابن أخي فقد مضى الحجاج إلى ربه ، و إنك حين تقدم على الله ستجد إن أحقر ذنبٍ ارتكبته في الدنيا أشد على نفسك من أعظم ذنبٍ اجترحه الحجاج ، و لكل منكما يومئذٍ شأن يغنيه ، و اعلم يا ابن أخي أن الله عز وجل سوف يقتص من الحجاج لمن ظلمهم ، كما سيقتص للحجاج ممن ظلموه فلا تشغلن نفسك بعد اليوم بسب أحد . ذكره أبو نعيم في الحلية (2/271) .

والله أعلم ..


ابو عبد الله الذهبي ...صيد الفوائد
 

قال شيخ الاسلام ابن تيمية:
=====


وَالْكَلَامُ فِي أَحْوَالِ الْمُلُوكِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ مُتَعَسِّرٌ أَوْ مُتَعَذِّرٌ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ نَعْلَمَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ : أَنَّهُمْ هُمْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ يَدْخُلُونَ بِهَا فِي نُصُوصِ الْوَعْدِ أَوْ نُصُوصِ الْوَعِيدِ . وَتَنَاوُلُ نُصُوصِ الْوَعْدِ لِلشَّخْصِ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قِيلَ لَهُ : الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ لِيُقَالَ ؟ فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .

وَكَذَلِكَ تَنَاوُلُ نُصُوصِ الْوَعِيدِ لِلشَّخْصِ مَشْرُوطٌ بِأَلَا يَكُونَ مُتَأَوِّلًا وَلَا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا . فَإِنَّ اللَّهَ عَفَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ . وَكَثِيرٌ مِنْ تَأْوِيلَاتِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَمَا يَعْرِضُ لَهُمْ فِيهَا مِنْ الشُّبُهَاتِ مَعْرُوفَةٌ يَحْصُلُ بِهَا مِنْ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ . فَيَأْتُونَ مَا يَأْتُونَهُ بِشُبْهَةِ وَشَهْوَةٍ . وَالسَّيِّئَاتُ الَّتِي يَرْتَكِبُهَا أَهْلُ الذُّنُوبِ تَزُولُ بِالتَّوْبَةِ . وَقَدْ تَزُولُ بِحَسَنَاتِ مَاحِيَةٍ وَمَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ . وَقَدْ تَزُولُ بِصَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ وَبِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ .

فَلِهَذَا كَانَ أَهْل الْعِلْمِ يَخْتَارُونَ فِيمَنْ عُرِفَ بِالظُّلْمِ وَنَحْوِهِ مَعَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ لَهُ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ فِي الظَّاهِرِ - كَالْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ وَأَمْثَالِهِ - أَنَّهُمْ لَا يَلْعَنُونَ أَحَدًا مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ ; بَلْ يَقُولُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } فَيَلْعَنُونَ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَامًّا . كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيهَا وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَآكِلَ ثَمَنِهَا } وَلَا يَلْعَنُونَ الْمُعَيَّنَ .

كمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ : { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُدْعَى حِمَارًا وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِدُهُ . فَأُتِيَ بِهِ مَرَّةً . فَلَعَنَهُ رَجُلٌ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ . فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } .

ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّعْنَةَ مِنْ بَابِ الْوَعِيدِ وَالْوَعِيدُ الْعَامُّ [ لَا يُقْطَعُ بِهِ لِلشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ ] لِأَحَدِ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ : مِنْ تَوْبَةٍ أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَوْ مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ أَوْ شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ . وَغَيْرِ ذَلِكَ .

وَطَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَلْعَنُونَ الْمُعَيَّنَ كيزيد بن معاوية. وَطَائِفَةٌ بِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بَلْ نُحِبُّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُوَالِيَ عَلَيْهِ . إذْ لَيْسَ كَافِرًا .

وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأُمَّةِ : أَنَّا لَا نَلْعَنُ مُعَيَّنًا مُطْلَقًا . وَلَا نُحِبُّ مُعَيَّنًا مُطْلَقًا [ فَإِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ سَبَبُ هَذَا وَسَبَبُ هَذَا ] إذَا اجْتَمَعَ فِيهِ مِنْ حُبِّ الْأَمْرَيْنِ . إذْ كَانَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّتِي فَارَقُوا بِهَا الْخَوَارِجَ : أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ تَجْتَمِعُ فِيهِ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ فَيُثَابُ عَلَى حَسَنَاتِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ . وَيُحْمَدُ عَلَى حَسَنَاتِهِ وَيُذَمُّ عَلَى سَيِّئَاتِهِ . وَأَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ مَرْضِيٌّ مَحْبُوبٌ وَمِنْ وَجْهٍ بَغِيضٌ مَسْخُوطٌ . فَلِهَذَا كَانَ لِأَهْلِ الْإِحْدَاثِ : هَذَا الْحُكْمُ .

وَأَمَّا أَهْلُ التَّأْوِيلِ الْمَحْضِ الَّذِينَ يَسُوغُ تَأْوِيلُهُمْ : فَأُولَئِكَ مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ : خَطَؤُهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ وَهُمْ مُثَابُونَ عَلَى مَا أَحْسَنُوا فِيهِ مِنْ حُسْنِ قَصْدِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ . وَإِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } .

وَلِهَذَا كَانَ الْكَلَامُ فِي السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَمَنْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ كَعُثْمَانِ وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَنَحْوِهِمْ : لَهُ هَذَا الْحُكْمُ . بَلْ وَمَنْ هُوَ دُونَ هَؤُلَاءِ الْأَكَابِرِ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ . وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } .

فَنَقُولُ فِي هَؤُلَاءِ وَنَحْوِهِمْ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ : إمَّا أَنْ يَكُونَ عَمَلُ أَحَدِهِمْ سَعْيًا مَشْكُورًا أَوْ ذَنْبًا مَغْفُورًا أَوْ اجْتِهَادًا قَدْ عُفِيَ لِصَاحِبِهِ عَنْ الْخَطَأِ فِيهِ . فَلِهَذَا كَانَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ الْعِلْمِ : أَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ الْكَلَامِ فِي هَؤُلَاءِ بِكَلَامِ يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِمْ وَدِيَانَتِهِمْ بَلْ يُعْلَمُ أَنَّهُمْ عُدُولٌ مَرْضِيُّونَ وَأَنَّ هَؤُلَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَا سِيَّمَا وَالْمَنْقُولُ عَنْهُمْ مِنْ الْعَظَائِمِ كَذِبٌ مُفْتَرًى مِثْلَمَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ شِيعَةِ عُثْمَانَ يَتَّهِمُونَ عَلِيًّا بِأَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ عُثْمَانَ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ . وَكَانَ بَعْضُ مِنْ يُقَاتِلُهُ يَظُنُّ ذَلِكَ بِهِ . وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ شُبَهِهِمْ الَّتِي قَاتَلُوا عَلِيًّا بِهَا . وَهِيَ شُبْهَةٌ بَاطِلَةٌ

وَكَانَ عَلِيٌّ يَحْلِفُ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ - أَنِّي مَا قَتَلْت عُثْمَانَ وَلَا أَعَنْت عَلَى قَتْلِهِ . وَيَقُولُ : " اللَّهُمَّ شَتِّتْ قَتَلَةَ عُثْمَانَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالسَّهْلِ وَالْجَبَلِ وَكَانُوا يَجْعَلُونَ امْتِنَاعَهُ مِنْ تَسْلِيمِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ مِنْ شُبَهِهِمْ فِي ذَلِكَ . وَلَمْ يَكُنْ مُمَكَّنًا مِنْ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِكَوْنِ النَّاسِ مُخْتَلِفِينَ عَلَيْهِ وَعَسْكَرِهِ وَأُمَرَاءِ عَسْكَرِهِ غَيْرَ مُطِيعِينَ لَهُ فِي كُلِّ مَا كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِهِ . فَإِنَّ التَّفَرُّقَ وَالِاخْتِلَافَ يَقُومُ فِيهِ مِنْ [ أَسْبَابِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ وَتَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ مَا يَعْلَمُهُ ] مَنْ يَكُونُ [ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْعَارِفِينَ بِمَا جَاءَ مِنْ النُّصُوصِ فِي فَضْلِ ] الْجَمَاعَةِ وَالْإِسْلَامِ .

[ وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ : قَدْ أَتَى أُمُورًا مُنْكَرَةً . مِنْهَا : وَقْعَةُ الْحَرَّةُ . وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عِيرٍ إلَى كَذَا . مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى ] مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ } وَقَالَ { مَنْ أَرَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءِ أَمَاعَهُ اللَّهُ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ } .

وَلِهَذَا قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَد : أَتَكْتُبُ الْحَدِيثَ عَنْ يَزِيدَ ؟ فَقَالَ : لَا وَلَا كَرَامَةَ أَوَلَيْسَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِأَهْلِ الْحَرَّةِ مَا فَعَلَ وَقِيلَ لَهُ - أَيْ فِي مَا يَقُولُونَ - أَمَا تُحِبُّ يَزِيدَ ؟ فَقَالَ : وَهَلْ يُحِبُّ يَزِيدَ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ؟ فَقِيلَ : فَلِمَاذَا لَا تَلْعَنُهُ ؟ فَقَالَ : وَمَتَى رَأَيْت أَبَاك يَلْعَنُ أَحَدًا . وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ : أَنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُجَرَّدِ الذُّنُوبِ وَلَا بِمُجَرَّدِ التَّأْوِيلِ ; بَلْ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ إذَا كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ فَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ .

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَتْ زِيَادَاتٌ : بَعْضُهَا صَحِيحٌ وَبَعْضُهَا ضَعِيفٌ وَبَعْضُهَا كَذِبٌ مَوْضُوعٌ .

وَالْمُصَنِّفُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ : كالبغوي وَابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَنَحْوِهِمَا : كَالْمُصَنِّفِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي سَائِرِ الْمَنْقُولَاتِ : هُمْ بِذَلِكَ أَعْلَمُ وَأَصْدَقُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُمْ يُسْنِدُونَ مَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ الثِّقَاتِ أَوْ يُرْسِلُونَهُ عَمَّنْ يَكُونُ مُرْسِلُهُ يُقَارِبُ الصِّحَّةَ بِخِلَافِ الْإِخْبَارِيِّينَ فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّا يُسْنِدُونَهُ عَنْ كَذَّابٍ أَوْ مَجْهُولٍ . وَأَمَّا مَا يُرْسِلُونَهُ فَظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ . وَهَؤُلَاءِ لَعَمْرِي مِمَّنْ يَنْقُلُ عَنْ غَيْرِهِ مُسْنَدًا أَوْ مُرْسَلًا .

وَأَمَّا أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَنَحْوُهُمْ : فَيَعْتَمِدُونَ عَلَى نَقْلٍ لَا يُعْرَفُ لَهُ قَائِلٌ أَصْلًا لَا ثِقَةٌ وَلَا مُعْتَمَدٌ . وَأَهْوَنُ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ الْكَذِبُ الْمُخْتَلَقُ . وَأَعْلَمُ مَنْ فِيهِمْ لَا يَرْجِعُ فِيمَا يَنْقُلُهُ إلَى عُمْدَةٍ بَلْ إلَى سماعات عَنْ الْجَاهِلِينَ وَالْكَذَّابِينَ وَرِوَايَاتٍ عَنْ أَهْلِ الْإِفْكِ الْمُبِينِ .

فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي يَذْكُرُونَ فِيهَا حَمْلَ رَأْسِ الْحُسَيْنِ إلَى يَزِيدَ وَنَكْتَهُ إيَّاهَا بِالْقَضِيبِ كَذَبُوا فِيهَا وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ إلَى ابْنِ زِيَادٍ - وَهُوَ الثَّابِتُ بِالْقِصَّةِ - فَلَمْ يُنْقَلْ بِإِسْنَادِ مَعْرُوفٍ أَنَّ الرَّأْسَ حُمِلَ إلَى قُدَّامِ يَزِيدَ . وَلَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ إلَّا إسْنَادًا مُنْقَطِعًا . قَدْ عَارَضَهُ مِنْ الرِّوَايَاتِ مَا هُوَ أَثْبَتُ مِنْهُ وَأَظْهَرُ

- نَقَلُوا فِيهَا أَنَّ يَزِيدَ لَمَّا بَلَغَهُ مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ أَظْهَرَ التَّأَلُّمَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ : لَعَنَ اللَّهُ أَهْلَ الْعِرَاقِ . لَقَدْ كُنْت أَرْضَى مِنْ طَاعَتِهِمْ بِدُونِ هَذَا . وَقَالَ فِي ابْنِ زِيَادٍ : أَمَا إنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُسَيْنِ رَحِمٌ لَمَا قَتَلَهُ . وَأَنَّهُ ظَهَرَ فِي دَارِهِ النَّوْحُ لِمَقْتَلِ الْحُسَيْنِ وَأَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَهْلُهُ وَتَلَاقَى النِّسَاءُ تَبَاكَيْنَ وَأَنَّهُ خَيَّرَ ابْنَهُ عَلِيًّا بَيْنَ الْمُقَامِ عِنْدَهُ وَالسَّفَرِ إلَى الْمَدِينَةِ فَاخْتَارَ السَّفَرَ إلَى الْمَدِينَةِ . فَجَهَّزَهُ إلَى الْمَدِينَةِ جَهَازًا حَسَنًا . فَهَذَا وَنَحْوَهُ مِمَّا نَقَلُوهُ بِالْأَسَانِيدِ الَّتِي هِيَ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ مِنْ ذَلِكَ الْإِسْنَادِ الْمُنْقَطِعِ الْمَجْهُولِ تُبَيِّنُ أَنَّ يَزِيدُ لَمْ يُظْهِرْ الرِّضَا بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ وَأَنَّهُ أَظْهَرَ الْأَلَمَ لِقَتْلِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِسَرِيرَتِهِ . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِهِ ابْتِدَاءً لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مَا انْتَقَمَ مِنْ قَاتِلِيهِ وَلَا عَاقَبَهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوا ; إذْ كَانُوا قَتَلُوهُ لِحِفْظِ مُلْكِهِ [ الَّذِي كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ مِنْ ] الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ الْبَيْتِ . رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ

و الْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ نَقْلَ رَأْسِ الْحُسَيْنِ إلَى الشَّامِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي زَمَنِ يَزِيدَ . فَكَيْفَ بِنَقْلِهِ بَعْدَ زَمَنِ يَزِيدَ ؟ وَإِنَّمَا الثَّابِتُ : هُوَ نَقْلُهُ مِنْ كَرْبَلَاءَ إلَى أَمِيرِ الْعِرَاقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ بِالْكُوفَةِ . وَاَلَّذِي ذَكَرَ الْعُلَمَاءَ : أَنَّهُ دُفِنَ بِالْمَدِينَةِ . وَأَمَّا مَا يَرْوِيهِ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ يُمَيِّزُ بِهِ مَا يَقُولُ وَلَا لَهُ إلْمَامٌ بِمَعْرِفَةِ الْمَنْقُولِ : مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ سُبُّوا وَأَنَّهُمْ حُمِلُوا عَلَى الْبَخَاتِيِّ وَأَنَّ الْبَخَاتِيَّ نَبَتَ لَهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ سَنَامَانِ : فَهَذَا مِنْ الْكَذِبِ الْوَاضِحِ الْفَاضِحِ لِمَنْ يَقُولُهُ . فَإِنَّ الْبَخَاتِيَّ قَدْ كَانَتْ مِنْ يَوْمِ خَلَقَهَا اللَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ ذَاتَ سَنَامَيْنِ كَمَا كَانَ غَيْرُهَا مِنْ أَجْنَاسِ الْحَيَوَانِ . وَالْبَخَاتِيِّ لَا تَسْتُرُ امْرَأَةً . وَلَا سَبَى أَهْلَ الْبَيْتِ أَحَدٌ وَلَا سُبِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ . بَلْ هَذَا كَمَا يَقُولُونَ : إنَّ الْحَجَّاجَ قَتَلَهُمْ .

وَقَدْ عَلِمَ أَهْلُ النَّقْلِ كُلُّهُمْ أَنَّ الْحَجَّاجَ لَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ كَمَا عَهِدَ إلَيْهِ خَلِيفَتُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ وَأَنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَرَأَوْهُ لَيْسَ بِكُفْءِ لَهَا . وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى فَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا . بَلْ بَنُو مَرْوَانَ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَمْ يَقْتُلُوا أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لَا آلِ عَلِيٍّ وَلَا آلِ الْعَبَّاسِ إلَّا زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ الْمَصْلُوبَ بِكُنَاسَةِ الْكُوفَةِ وَابْنَهُ يَحْيَى .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ حُمِلَ رأس الحسين إلَى يَزِيدَ فَأَيُّ غَرَضٍ كَانَ لَهُمْ فِي دَفْنِهِ بِعَسْقَلَانَ وَكَانَتْ إذْ ذَاكَ ثَغْرًا يُقِيمُ بِهِ الْمُرَابِطُونَ ؟ فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ تَعْفِيَةَ خَبَرِهِ فَمِثْلُ عَسْقَلَانَ تُظْهِرُهُ لِكَثْرَةِ مَنْ يَنْتَابُهَا لِلرِّبَاطِ . وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ بَرَكَةَ الْبُقْعَةِ فَكَيْفَ يَقْصِدُ هَذَا مَنْ يُقَالُ : إنَّهُ عَدُوٌّ لَهُ مُسْتَحِلٌّ لِدَمِهِ سَاعٍ فِي قَتْلِهِ ؟ ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ دَفْنَهُ قَرِيبًا عِنْدَ أُمِّهِ وَأَخِيهِ بِالْبَقِيعِ أَفْضَلُ لَهُ .

الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ دَفْنَهُ بِالْبَقِيعِ : هُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ عَادَةُ الْقَوْمِ . فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي الْفِتَنِ إذَا قَتَلُوا الرَّجُلَ - لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ - سَلَّمُوا رَأْسَهُ وَبَدَنَهُ إلَى أَهْلِهِ كَمَا فَعَلَ الْحَجَّاجُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ لَمَّا قَتَلَهُ وَصَلَبَهُ ثُمَّ سَلَّمَهُ إلَى أُمِّهِ . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ سَعْيَ الْحَجَّاجِ فِي قَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَنَّ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ الْحُرُوبِ : أَعْظَمُ بِكَثِيرِ مِمَّا كَانَ بَيْنَ الْحُسَيْنِ وَبَيْنَ خُصُومِهِ .

فإِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ ادَّعَى الْخِلَافَةَ بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ وَبَايَعَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ . وَحَارَبَهُ يَزِيدُ حَتَّى مَاتَ وَجَيْشُهُ مُحَارِبُونَ لَهُ بَعْدَ وَقْعَةِ الْحَرَّةِ . ثُمَّ لَمَّا تَوَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ غَلَبَهُ عَلَى الْعِرَاقِ مَعَ الشَّامِ . ثُمَّ بَعَثَ إلَيْهِ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ فَحَاصَرَهُ الْحِصَارَ الْمَعْرُوفَ حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ صَلَبَهُ ثُمَّ سَلَّمَهُ إلَى أُمِّهِ . وَقَدْ دُفِنَ بَدَنُ الْحُسَيْنِ بِمَكَانِ مَصْرَعِهِ بِكَرْبَلَاءَ وَلَمْ يُنْبَشْ وَلَمْ يُمَثَّلْ بِهِ . فَلَمْ يَكُونُوا يَمْتَنِعُونَ مِنْ تَسْلِيمِ رَأْسِهِ إلَى أَهْلِهِ كَمَا سَلَّمُوا بَدَنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ إلَى أَهْلِهِ وَإِذَا تَسَلَّمَ أَهْلُهُ رَأْسُهُ فَلَمْ يَكُونُوا لِيَدَّعُوا دَفْنَهُ عِنْدَهُمْ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ عِنْدَ عَمِّهِ وَأُمِّهِ وَأَخِيهِ وَقَرِيبًا مِنْ جَدِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْفِنُونَهُ بِالشَّامِ حَيْثُ لَا أَحَدَ إذْ ذَاكَ يَنْصُرُهُمْ عَلَى خُصُومِهِمْ ؟ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانَ يُبْغِضُهُ وَيُبْغِضُ أَبَاهُ . هَذَا لَا يَفْعَلُهُ أَحَدٌ .
 


خطبة الحجاج في أهل الكوفة:
=====


قال: يا أهل العراق! أنا .

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني

أما و الله فإني لأحمل الشر بثقله و أحذوه بنعله و أجزيه بمثله، والله يا أهل العراق إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى.

ثم قال: والله يا أهل العراق، إن أمير المؤمنين عبد الملك نثل كنانة بين يديه، فعجم عيدانها عوداً عوداً، فوجدني أمرّها عوداً، وأشدها مسكا، فوجهني إليكم، ورماكم بي.

يا أهل العراق، يا أهل النفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق، إنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في مناخ الضلال، وسننتم سنن الغي، وأيم الله لألحونكم لحو العود، ولأقرعنكم قرع المروة، ولأعصبنكم عصب السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، إني والله لا أحلق إلا فريت، ولا أعد إلا وفيت، إياي وهذه الزرافات، وقال وما يقول، وكان وما يكون، وما أنتم وذاك؟.

يا أهل العراق! إنما أنتم أهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكفرتم بأنعم الله، فأتاها وعيد القرى من ربها، فاستوسقوا واعتدلوا، ولا تميلوا، واسمعوا وأطيعوا، وشايعوا وبايعوا، واعلموا أنه ليس مني الإكثار والإبذار والأهذار، ولا مع ذلك النفار والفرار، إنما هو انتضاء هذا السيف، ثم لا يغمد في الشتاء والصيف، حتى يذل الله لأمير المؤمنين صعبكم، ويقيم له أودكم، وصغركم، ثم إني وجدت الصدق من البر، ووجدت البر في الجنة، ووجدت الكذب من الفجور، ووجدت الفجور في النار،

وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم وإشخاصكم لمجاهدة عدوكم وعدو أمير المؤمنين، وقد أمرت لكم بذلك، وأجلتكم ثلاثة أيام، وأعطيت الله عهداً يؤاخذني به، ويستوفيه مني، لئن تخلف منكم بعد قبض عطائه أحد لأضربن عنقه. ولينهبن ماله.

ثم التفت الحجاج إلى أهل الشام فقال: يا أهل الشام! أنتم البطانة والعشيرة، والله لريحكم أطيب من ريح المسك الأزفر، وإنما أنتم كما قال الله تعالى: "ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء"

والتفت الحجاج إلى أهل العراق فقال: لريحكم أنتن من ريح الأبخر، وإنما أنتم كما قال الله تعالى: "ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار".

ثم قال الحجاج :اقرأ كتاب أمير المؤمنين يا غلام: فقال القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالعراق من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله، فسكتوا

فقال من فوق المنبر: "أسكت يا غلام"، فسكت،

قال الحجاج :" يا أهل الشقاق، ويا أهل النفاق ومساوئ الأخلاق. يسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون السلام؟ هذا أدب ابن أبيه؟ والله لئن بقيت لكم لأؤدبنكم أدباً سوى أدب ابن أبيه، ولتستقيمن لي أو لأجعلن لكل امرئ منكم في جسده وفي نفسه شغلاً،

اقرأ كتاب أمير المؤمنين يا غلام"، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم فلما بلغ إلى موضع السلام صاحوا وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته، فأنهاه ودخل قصر الإمارة ."

هذا مشهد تلفزيوني من مسلسل الحجاج عن الخطبة في الكوفة


 

خطبة الحجاج في أهل البصرة
===



يا أهل البصرة قد بلغكم ما كان من قول لأهل الكوفة واني لا اعيد عليكم بل ازيد

أيها الناس من أعياه داؤه فعندى دواءه و من استطال أجله فعلي أن أعجله ومن ثقل عليه رأسه، وضعت عنه ثقله ومن طال ماضى عمره قصرت عليه باقيه

إن للشيطان طيفا، و ان للسلطان سيفا فمن سقمت سريرته، صحت عقوبته و من وضعه ذنبه، رفعه صلبه ومن لم تسعه العافية، لم تضق عنه التهلكة ومن سبقته بادرة فمه، سبق بدنه بسفك دمه اني انذر ثم لا انظر. واحذر ثم لا اعذر. واتوعد ثم لا اعفو.

انما أفسدكم ضعف ولائكم أما أنا فان الحزم و العزم قد سلباني صوتي وابدلاني به سيفي فمقبضه بيدي و نجاده في عنقي وحده في عنق من عصاني

والله لا آمر أحدكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه



 
كتاب الحجاج رجل الدولة المفترى عليه / تأليف محمود الجومرد / الناشر وزارة الثقافة والإعلام العراقية /تاريخ النشر 1/10/ 1985

كتاب الحجاج بن يوسف الثقفي المفترى عليه / تأليف: الدكتور محمود زيادة
للتحميل :
 
الحجاج بن يوسف الثقفي*



بسم الله الرحمن الرحيم

النشأة
ولد الحجاج بن يوسف الثقفي في الطائف عام الجماعة (41 هـ = 661م)، ونشأ بين أسرة كريمة من بيوت ثقيف، وكان أبوه رجلا تقيّاً شريفاً، وقضى معظم حياته في الطائف، يعلم أبناءها القرآن الكريم دون أن يتخذ ذلك حرفة أو يأخذ عليه أجرا. وأمه هي الفارعة بنت همام بن الصحابي عروة بن مسعود الثقفي، تزوجها الصحابي المغيرة بن شعبة ثم طلقها وندم، فتزوجها أبو الحجاج. حفظ الحجاج القرآن، ثم تردد على حلقات أئمة العلم من الصحابة والتابعين، مثل: عبد الله بن عباس، وسعيد بن المسيب، وغيرهم، ثم اشتغل بالتعليم، مثل أبيه. وقد كان من أفصح الناس، حتى قال عنه النحوي أبو عمرو بن العلاء: «ما رأيت أفصح من الحسن البصري، ومن الحجاج».


الحجاج وابن الزبير
لفت الحجاج أنظار الخليفة عبد الملك بن مروان، ورأى فيه شدة وحزما وقدرة وكفاءة، وكان في حاجة إليه حتى ينهي الصراع الدائر بينه وبين الذي كان قد أعلن نفسه خليفة سنة (64هـ = 683م) بعد وفاة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، ودانت له بالولاء معظم أنحاء العالم الإسلامي، ولم يبق سوى الأردن التي ظلت على ولائها للأمويين، وبايعت بالخلافة، فنجح في استعادة الشام ومصر من قبضة ابن الزبير، ثم توفي تاركا لابنه عبد الملك استكمال المهمة، فانتزع العراق، من معصب بن الزبير. ثم جهز عبد الملك حملة بقيادة الحجاج؛ للقضاء على دولته تماما. حاصر الحجاج مكة المشرفة، وضيّق الخناق على ابن الزبير المحتمي بالبيت، وكان أصحابه -بما فيهم ولديه- قد تفرقوا عنه وخذلوه، بسبب سياسته وشدته. ولم يبق سوى قلة صابرة، لم تغنِ عنه شيئا، وانتهى القتال باستشهاد ابن الزبير والقضاء على دولته، وعودة الوحدة للأمة الإسلامية التي أصبحت في ذلك العام (73 هـ = 693م) تدين بالطاعة لخليفة واحد، وهو عبد الملك بن مروان. وكان من أثر هذا الظفر أن أسند الخليفة إلى الحجاج ولاية الحجاز مكافأة له على نجاحه، وكانت تضم مكة والمدينة والطائف، ثم أضاف إليه اليمن واليمامة فكان عند حسن ظن الخليفة وأظهر حزما وعزما في إدارته؛ حتى تحسنت أحوال الحجاز، فأعاد بناء الكعبة، وبنى مسجد ابن سلمة بالمدينة المنورة، وحفر الآبار، وشيد السدود.


وهنا يزعم بعض الكذابين بأن الحجاج قد ضرب الكعبة بالمنجنيق حتى هدمها، وهذه الفرية رد عليها شيخ الإسلام، فيقول في الجواب الصحيح (5|264): «والحجاج بن يوسف كان معظما للكعبة لم يرمها بمنجنيق». ويقول في الرد على المنطقيين (1|502): «والحجاج بن يوسف لم يكن عدوا لها ولا أراد هدمها ولا أذاها بوجه من الوجوه ولا رماها بمنجنيق أصلا». ويقول في منهاج السنة النبوية (4|348): «أما ملوك المسلمين من وبني العباس ونوابهم، فلا ريب أن أحدا منهم لم يقصد إهانة الكعبة: لا نائب يزيد، ولا نائب الحجاج بن يوسف، ولا غيرهما. بل كان المسلمين كانوا معظمين للكعبة. وإنما كان مقصودهم حصار ابن الزبير. والضرب بالمنجنيق كان له لا للكعبة. ويزيد لم يهدم الكعبة ولم يقصد إحراقها لا وهو ولا نوابه باتفاق المسلمين».

أقول: احترقت الكعبة أيام يزيد بسبب اقتراب مشعل أحد جنود ابن الزبير من كسائها. فبعد ذلك قام ابن الزبير بهدمها ليعيد بنائها على قواعد إبراهيم. فلما قُتل، أمر عبد الملك بإعادة بناء الكعبة على ما كانت عليه وإخراج حجر إسماعيل منها، لأنه لم يسمع بالحديث الذي استند عليه ابن الزبير. أما حكاية المنجنيق فأنا أشك بها من أصلها. فالحجاج قد تقدم جيشه واحتل الأخشبين (جبل أبي قبيس الذي عليه القصر الملكي اليوم بجانب الصفا، وجبل قعيقان\الهندي)، وهما مطلان على المسجد الحرام من المشرق والمغرب وقريبين إليه جداً. فما الحاجة للمنجنيق؟ والمسجد الحرام من طابق واحد غير مرتفع، ومن السهل بمكان على جيش من آلاف أن يعلوه ويدخله، وهو ليس مبني أصلاً ليكون حصناً. وهدمه لا يحتاج أكثر من بضعة أيام. فلم طال الحصار إلى عدة شهور؟ عدا أن تفاصيل القصة تضمنت مبالغات مفضوحة. فكيف يزعمون أن ابن الزبير وحده قد قاتل بضعة آلاف وأخرجهم من باب بني شيبة؟ وماذا عن باقي الأبواب؟ هذه أشبه بأساطير الإغريق.

abu_qabees.jpg




الحجاج في العراق
بعد أن أمضى الحجاج زهاء عامين واليًا على الحجاز نقله الخليفة واليا على العراق بعد وفاة أخيه بشر بن مروان، وكانت الأمور في العراق بالغة الفوضى والاضطراب. فلبى الحجاج أمر الخليفة وأسرع في سنة (75هـ = 694م) إلى الكوفة، وحشد الناس للجهاد ضد الخوارج كما سيأتي تفصيله. ثم حدثت حركة تمرد في صفوف الجيش، بقيادة ابن الجارود بعد أن أعلن الحجاج عزمه على إنقاص المحاربين من أهل العراق 100 درهم، ولكن الحجاج تمكن من إخماد الفتنة، وعفا عن المتمردين إلا بعض قادتهم. ثم تطلع الحجاج بعد أن قطع دابر الفتنة، وأحل الأمن والسلام إلى استئناف حركة الفتوحات الإسلامية التي توقفت بسبب الفتن والثورات التي غلت يد الدولة، وكان يأمل في أن يقوم الجيش الذي بعثه تحت قيادة ابن الأشعث بهذه المهمة، وكان جيشا عظيما أنفق في إعداده وتجهيزه أموالا طائلة حتى أُطلق عليه جيش الطواويس، لكنه نكص على عقبيه وأعلن الثورة، واحتاج الحجاج إلى سنوات ثلاثة (81-83 هـ – 700-702م) حتى أخمد هذه الفتنة العمياء. وخلال هذه السنين الصعبة، حقق ابن الأشعث عددا من الانتصارات فغرّه ذلك، وأعلن العصيان، وخلع طاعة الخليفة، وكان في نفسه عجب وخيلاء واعتداد كريه. وآزره عدد من كبار التابعين انغروا بدعوته، واضطرب أمر العراق وسقطت الكوفة والبصرة في أيدي المتمردين، وعرض عليهم الخليفة خلع الحجاج، فرفضوا وأصروا على القضاء على الخلافة الإسلامية. غير أن الحجاج صمد واستبسل حتى جاء الجيش الشامي، وتمكن من سحق عدوه في معركة دير الجماجم سنة (83 هـ = 702م)، ثم انتحر ابن الأشعث. لقد قتل في هذه الفتنة أعداد عظيمة من المسلمين. بل معظم الذين قتلهم الحجاج في ولايته كانوا من المشتركين في هذه الفتنة العظيمة التي عطلت الفتوحات وكادت تقضي على الخلافة الإسلامية، وهذا سبب تشدده بعكس تعامله مع ثورة ابن الجارود.


الفتوحات الإسلامية
بعد إخماد الفتنة، عاود الحجاج سياسة الفتح، وأرسل الجيوش المتتابعة، واختار لها القادة الأكفاء، مثل قتيبة بن مسلم الباهلي، الذي ولاه الحجاج خراسان سنة (85هـ = 704م)، وعهد إليه بمواصلة الفتح وحركة الجهاد؛ فأبلى بلاء حسنا، ونجح في فتح ما وراء النهر وانتشر الإسلام في هذه المناطق وأصبح كثير من مدنها مراكز هامة للحضارة الإسلامية مثل بخارى وسمرقند. وهنا نذكر أن مساحة فتوح قتيبة بن مسلم الباهلي وحده، تبلغ أربعين بالمائة من مساحة الاتحاد السوفييتي السابق وثلاثاً وثلاثين بالمئة من مساحة الصين الشعبية في الوقت الحاضر. وأن سكان المناطق التي فتحها في بلاد ما وراء النهر وتركستان الشرقية ضمن الاتحاد السوفييتي والصين لا يزالون مسلمين حتى اليوم، ويعتزون بالإسلام ديناً. هذا فضلاً عن فتوحات باقي قادة الحجاج، وباقي ولاة بني أمية.


وبعث الحجاج بابن عمه محمد بن القاسم الثقفي لفتح بلاد السند، وكان شابا عمره 17 سنة، ولكنه كان قائدا عظيما موفور القدرة، نجح خلال فترة قصيرة لا تزيد عن خمس سنوات (89-95هـ = 707-713م) في أن يفتح مدن وادي السند (باكستان حالياً)، وكتب إلى الحجاج يستأذنه في فتح قنوج أعظم إمارات الهند التي كانت تمتد بين السند والبنغال فأجابه إلى طلبه وشجعه على المضي، وكتب إليه أن «سر فأنت أمير ما افتتحته»، وكتب إلى قتيبة بن مسلم عامله على خراسان يقول له: «أيكما سبق إلى الصين فهو عامل عليها».

وقال ابن كثير في تاريخه (9|104) عن : «فكانت سوق الجهاد قائمة في بني أمية ليس لهم شغل إلا ذلك، قد علت كلمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وبرها وبحرها. وقد أذلوا الكفر وأهله، وامتلأت قلوب المشركين من المسلمين رعبا، لا يتوجه المسلمون إلى قطر من الأقطار إلا أخذوه. وكان في عساكرهم وجيوشهم في الغزو الصالحون والأولياء والعلماء من كبار التابعين، في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينه. فقتيبة بن مسلم يفتح في بلاد الترك، يقتل ويسبي ويغنم، حتى وصل إلى تخوم الصين، وأرسل إلى ملكه يدعوه، فخاف منه وأرسل له هدايا وتحفا وأموالا كثيرة هدية، وبعث يستعطفه مع قوته وكثرة جنده، بحيث أن ملوك تلك النواحي كلها تؤدي إليه الخراج خوفا منه. ولو عاش الحجاج لما أقلع عن بلاد الصين، ولم يبق إلا أن يلتقي مع ملكها، فلما مات الحجاج رجع الجيش كما مر... ومحمد بن القاسم ابن أخي الحجاج يجاهد في بلاد الهند ويفتح مدنها في طائفة من جيش العراق وغيرهم». ولو عاش الحجاج لأكمل قتيبة فتح الصين كلها، ولأكمل ابن القاسم فتح الهند. فرحمة الله عليك يا أبا محمد.

إصلاحات الحجاج

وفي الفترة التي قضاها الحجاج في ولايته على العراق قام بجهود إصلاحية عظيمة، ولم تشغله الفترة الأولى من ولايته عن القيام بها، وشملت هذه الإصلاحات النواحي الاجتماعية والصحية والإدارية وغيرها؛ فأمر بعدم النوح على الموتى في البيوت، وبقتل الكلاب الضالة، ومنع التبول أو التغوط في الأماكن العامة، ومنع بيع الخمور، وأمر بإنشاء الجسور، وأنشأ صهاريج لتخزين مياه الأمطار، وأمر بحفر الآبار في المناطق المقطوعة، ومنع هجرة أهل الريف إلى المدن. ومن أعماله الكبيرة بناء مدينة واسط بين الكوفة والبصرة، واختار لها مكانا بين الكوفة والبصرة والأحواز لتكون عاصمة الخلافة، فجعل القسم الشرقي منها لسكن الجيش الشامي حتى لا يفسده العراقيون، والقسم الغربي جعل فيه دوائر الدولة. وكان الحجاج يختار ولاته من ذوي القدرة والكفاءة، ويراقب أعمالهم، ويمنع تجاوزاتهم على الناس. وقد أسفرت سياسته الحازمة عن إقرار الأمن الداخلي والضرب على أيدي اللصوص وقطاع الطرق.

ومن أهم إنجازات الحجاج هو تعريبه للدواوين، مما مكّن العرب للمرة الأولى من شغل الوظائف الإدارية في الدولة بعد أن كانت حكراً على الفرس. ونجح كذلك في إصدار الدراهم العربية وضبط معيارها، قام بإصلاح حال الزراعة في العراق بحفر الأنهار والقنوات، وإحياء الأرض الزراعية. واهتم بالفلاحين، وأقرضهم، ووفر لهم الحيوانات التي تقوم بمهمة الحرث؛ وذلك ليعينهم على الاستمرار في الزراعة.

نقط المصحف

ومن أجلِّ الأعمال التي قام بها الحجاج: أمره بتشكيل المصاحف كما ذكرنا ذلك بالتفصيل. ونُسب إليه تجزئه القرآن، ووضع إشارات تدل على نصف القرآن وثلثه وربعه وخمسه، ورغّب في أن يعتمد الناس على قراءة واحدة، وأخذ الناس بقراءة عثمان بن عفان، و ، وكتب مصاحف عديدة موحدة وبعث بها إلى الأمصار.

الحجاج مع بني هاشم

كانت الكوفة هي مركز التشيع التقليدي، ومنها خرج المختار الثقفي (والي ابن الزبير) بثورته الشيعية، ثم ادعى النبوة. ومن هنا يقارن بعض الناس بين المختار والحجاج، فيقولون هذا كذاب وهذا مبير، وهذا شيعي وذاك ناصبي، ويجعلانهما في نفس المستوى، وفي هذا إجحاف وظلم. قال شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية (2|36): «والحجاج بن يوسف خير من المختار بن أبي عبيد. فإن الحجاج كان مبيرا -كما سماه النبي (ص)- يسفك الدماء بغير حق، والمختار كان كذابا يدعى النبوة وإتيان جبريل إليه. وهذا الذنب أعظم من قتل النفوس. فإن هذا كفر، وإن كان لم يتب منه كان مرتدا، والفتنة أعظم من القتل».

إضافة إلى أن مسألة اتهام الحجاج بالنصب فيها نظر. فهو لم يتعرض لبني هاشم طوال فترة حكمه، لا في الحجاز ولا في العراق. بل كان معظماً لهم، وتزوج امرأة منهم وأعظم صداقها. وقد دخل عليه أحد قتلة الحسين، فلم يرحب به الحجاج وبشره بالنار. إذ روى الطبراني (3|111) بإسناد صحيح، وابن معين في التاريخ رواية الدوري (3|498) بإسناد حسن أن الحجاج قال يوماً: «من كان له بلاء فليقم فلنعطه على بلائه». فقام رجل (سنان) فقال: «قتلت الحسين». قال: «وكيف قتلته؟». قال: «دَسَرْتُه بالرمح دَسْراً، وهَبَرْتُه بالسيف هَبْراً، وما أشركت معي في قتله أحداً». قال: «أما إنك وإياه لن تجتمعا في مكان واحد» (أي في الجنة). وأخرجه ولم يعطه شيئا. لذلك قال د. الصلابي في كتابه "الدولة الأموية" (3|63): «وكان الحجّاج يحترم أهل البيت ويكرمهم... وما يذكر في كتب التاريخ من كون الحجّاج نصب العداء لأهل البيت غير صحيح».

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (4|504): «وهذا مما يقوله هؤلاء الجهال أن الحجاج بن يوسف قتل الأشراف وأراد قطع دابرهم، وهذا من الجهل بأحوال الناس. فإن الحجاج مع كونه مبيرا سفاكا للدماء قتل خلقا كثيرا، لم يقتل من أشراف بني هاشم أحدا قط. بل سلطانه عبد الملك بن مروان نهاه عن التعرض لبني هاشم -وهم الأشراف- وذكر أنه أتى إلى الحرب لما تعرضوا لهم -يعني لما قتل الحسين-. ولا يُعلم في خلافة عبد الملك والحجاج -نائبه على العراق- أنه قتل أحداً من بني هاشم». وقال في جامع المسائل (4|157): «وكما يروون أن الحجاج بن يوسف قتِلَ أشرافَ بني هاشم، وهذا كذبٌ أيضاً، فإن الحجاج مع ظلمه وغشمِه صَرَفَه الله عن بني هاشم، فلم يقتل منهم أحداً، وبذلك أمرَه خليفته ، وقال: "إياك وبني هاشم أن تتعرضَ إلى أحدٍ، فإني رأيت آل حرب لما تعرضوا للحسين أصابَهم ما أصابهم"، أو كما قال. ولم يُقتَل في دولة بني من الأشراف بني هاشم مَن هو معروف، (إلا) زيد بن علي بن الحسين لما صُلِبَ بالكوفة. وقد تزوَّج الحجاج ابنةَ عبد الله بن جعفر وأعظَم صداقَها، فلم يَرَوه كفؤاً لها وسَعَوا في مفارقتِه إيّاها».

مواعظ الحجاج
كان للحجاج مواعظ بليغة مؤثرة، فمنها:
قال على المنبر: «رحم الله امرؤا جعل لنفسه خطاما وزماما، فقادها لخطامها إلى طاعة الله، وعطفها بزمامها عن معصية الله. فإني رأيت الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه». (الكامل 1|93).

  • قال: «اللهم أرني الغي غيا فأجتنبه، وأرني الهدي هدى فأتبعه، ولا تكلني إلى نفسي فأضل ضلالا بعيدا، والله ما أحب أن أمضي من الدنيا بعمامتي هذه، ولما بقي أشبه بما مضى من الماء بالماء». (الكامل 1|93).
  • قال الحسن البصري: لقد وقذتني كلمة سمعتها من الحجاج. سمعته يقول: «إن امرؤا ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له، لحري أن تطول عليه حسرته يوم القيامة». (البيان 2|99، الكامل 1|93).
  • وعن المغيرة بن مسلم قال: سمعت أبي يقول: خطبنا الحجاج بن يوسف فذكر القبر فما زال يقول «إنه بيت الوحدة وبيت الغربة» حتى بكى وأبكى من حوله (البداية والنهاية 9|117).
  • قال الشعبي: سمعت الحجاج يتكلم بكلام ما سبقه إليه أحد، سمعته يقول: «أما بعد، فإن الله عز وجل كتب على الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب عليه البقاء ولا بقاء لما كتب عليه الفناء، فلا يغرنكم شاهد الدنيا من غائب الآخرة، فطول الأمل يقصر الأجل». (العاقبة 86، مروج الذهب 3|159)
  • «أيها الناس، إن الآمال تطوى، والأعمار تفنى، والأبدان تحت التراب تبلى. وإن الليل والنهار يتراكضان كتراكض البريد، يقربان كل بعيد ويبليان كل جديد. وفي ذلك -عباد الله- ما يلهي عن الشهوات ويسلي عن اللذات ويرغب في الباقيات الصالحات».
  • «أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت. فإنكم إن ذكرتموه في ضيق وسعه عليكم فرضيتم به فأجرتم، وإن ذكرتموه في غنى نغصه عليكم فجدتم به فأثبتم. إن المنايا قاطعات الآمال والليالي مدنيات الآجال، وإن المؤمن بين يومين: يوم قد مضى أحصى فيه عمله فختم عليه، ويوم قد بقي لعله لا يصل إليه. إن العبد عند خروج نفسه وحلول رمسه يرى جزاء ما أسلف وقلة غناء ما خلف. ولعله من باطل جمعه أو من حق منعه». (العاقبة في ذكر الموت لعبد الحق الإشبيلي ص87).
  • وعن مالك بن دينار قال: غدوت إلى الجمعة فجلست قريبا من المنبر، فصعد الحجاج المنبر ثم قال: «امرؤ زور عمله، امرؤ حاسب نفسه، امرؤ فكر فيما يقرؤه في صحيفته ويراه في ميزانه، امرؤ كان عند قلبه زاجرا وعند همه ذاكرا، وامرؤ أخذ بعنان قلبه كما يأخذ الرجل بخطام جمله، فإن قاده إلى طاعة الله قبله وتبعه، وإن قاده إلى معصية الله كفه»، قالوا: حتى بكى مالك بن دينار. (تاريخ العرب في الإسلام 493).
  • روى الأصمعي أن الحجاج مرض فأرجف الناس بموته، فخطبهم بعد إبلاله فقال: «إن طائفة من أهل الشقاق والنفاق نزغ الشيطان بينهم، قالوا: "مات الحجاج". وإذا مات فمه؟ فهل يرجو الحجاج الخير إلا بعد الموت؟ والله ما يسرني أن لا أموت وأن لي الدنيا وما فيها. وما رأيت الله رضي التخليد إلا لأهون خلقه عليه، إبليس، قال الله له: { إنَّكَ مِنَ المُنْظَرينَ } فأنظره إلى يوم الدين. ولقد دعا الله العبد الصالح فقال: { هَبْ لي مُلْكاً لا ينبغي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي } فأعطاه الله ذلك إلا البقاء. ولقد طلب العبد الصالح الموت بعد أن تم له أمره، فقال: { توفَّني مُسْلِماً وألحقني بالصَّالِحِينَ }. فما عسى أن يكون أيها الرجل؟ وكلكم ذلك الرجل. كأني والله بكل حي منكم ميتاً، وبكل رطب يابساً، ثم نقل في ثياب أكفانه إلى ثلاثة أذرع طولاً في ذراع عرضاً، فأكلت الأرض لحمه، ومصت صديده ، وانصرف الخبيث من ولده يقسم الخبيث من ماله، إن الذين يعقلون يعقلون ما أقول»، ثم نزل.
وفاة الحجاج
أصيب الحجاج في آخر عمره بما يظهر أنه سرطان المعدة. وتوفي بمدينة واسط في العشر الأخير من رمضان 95هـ (714م)، وقيل في ليلة القدر، ولعله علامة على حسن الخاتمة. قال محمد بن المنكدر: كان عمر بن عبد العزيز يبغض الحجاج فنفس عليه بكلمة قالها عند الموت: «اللهم اغفر لي فإنهم زعموا أنك لا تفعل». وروى الغساني (لم أعرفه) عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: «ما حسدت الحجاج عدو الله على شيء حسدي إياه على: حبه القرآن وإعطائه أهله عليه، وقوله حين حضرته الوفاة: "اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل"». وقال الأصمعي: لما حضرت الحجاج الوفاة أنشأ يقول:


يَا رَبِّ قَدْ حَلَفَ الأَعْدَاءُ وَاجْتَهَدُوا * بِأَنَّنِي رَجُلٌ مِنْ سَاكِنِي النَّارِ
أَيَحْلِفُونَ عَلَى عَمْيَاءَ؟ وَيْحَهُمُ * ما عِلْمُهُمْ بكريم العَفْوِ غَفَّارِ؟


قال فأخبر بذلك الحسن فقال: «تالله إن نجا لينجون بهما».

الحجاج في التاريخ
اختلف المؤرخون في شخصية الحجاج بين مدح وذم، ، ولكن الحكم عليه دون دراسة عصره المشحون بالفتن والقلاقل، يؤدي إلى نتيجة بعيدة عن الأمانة والنزاهة. ولا يختلف أحد في أنه اتبع أسلوبا حازما مبالغا فيه، وأسرف في قتل الخارجين على الدولة، ولكن هذه السياسة هي التي أدت إلى استقرار الأمن في مناطق الفتن والقلاقل التي عجز الولاة من قبله عن التعامل معها. ويقف ابن كثير في مقدمة المؤرخين القدماء الذين حاولوا إنصاف الحجاج؛ فيقول: «إن أعظم ما نُقِم على الحجاج وصح من أفعاله سفك الدماء، وكفى به عقوبة عند الله، وقد كان حريصا على الجهاد وفتح البلاد، وكانت فيه سماحة إعطاء المال لأهل القرآن؛ فكان يعطي على القرآن كثيرا، ولما مات لم يترك فيما قيل إلا 300 درهم».


شخصية الحجاج
كان الحجاج معروفاً بحسن عبادته، وغيرته على القرآن. وكان مبتعداً عن الملذات، زاهد في المال. وكان صاحب مواعظ بليغة. معروف ببعده عن صفات النفاق الثلاثة. وكل هذا لا ينف كونه مغالياً في التكفير. أي أنه كان يفعل ما يفعله تديناً وتقرباً إلى الله!! حتى أنه لقب نفسه بـ"مبير المنافقين"! والنصوص التاريخية موافقة لذلك، أذكر بعضها:

عن أبي بكر بن أبي خيثمة عن بحر بن أيوب عن عبد الله بن كثير: إن الحجاج صلى مرة بجنب سعيد بن المسيب (قبل أن يلي شيئاً)، فجعل يرفع قبل الإمام ويقع قبله في السجود. فلما سلم أخذ سعيد بطرف ردائه –وكان له ذكر بعد الصلاة–. فما زال الحجاج ينازعه بردائه، حتى قضى سعيد ذكره. ثم أقبل عليه سعيد فقال له: «يا سارق، يا خائن. تصلي هذه الصلاة؟ لقد هممت أن أضرب بهذا النعل وجهك». فلم يرد عليه. ثم مضى الحجاج إلى الحج، فعاد إلى الشام. ثم جاء نائباً على الحجاز. فلما قتل ابن الزبير، كر راجعاً إلى المدينة نائباً عليها. فلما دخل المسجد، إذا مجلس سعيد بن المسيب. فقصده الحجاج، فخشي الناس على سعيد منه. فجاء حتى جلس بين يديه، فقال له: «أنت صاحب الكلمات؟». فضرب سعيد صدره بيده وقال: «نعم». قال: «فجزاك الله من معلم ومؤدب خيراً. وما صليت بعدك صلاة إلا وأنا أذكر قولك». ثم قام ومضى.
«كان مشهورا بالتدين وترك المحرمات مثل المسكر والزنا ويتجنب المحارم». (البداية والنهاية 9|133).
«عرف عن الحجاج صلاته، وإمامته بكثير من الصحابة، وخطبه فيهم. وعرف عنه عبادته». (أغاليط المؤرخين 200).
وقال بعض السلف: «كان الحجاج يقرأ القرآن كل ليلة». (البداية والنهاية 9|119، تاريخ العرب في الإسلام 493).
«وكان فيه سماحة بإعطاء المال لأهل القرآن، فكان يعطي على القرآن كثيراً. ولما مات لم يترك فيما قيل إلا ثلاثمئة درهم». (البداية والنهاية 9|133).
وعن إبراهيم بن هشام عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: «ما حسدت أحداً، حسدي الحجاج على حبه القرآن وإعطائه أهله عليه».
ولا عجب من حبه للقرآن، فقد كان أبوه معلماً للقرآن بلا مقابل. وبدأ الحجاج حياته كذلك حتى انضم للشرطة. وهو الذي أمر بتشكيل القرآن (وفق قراءة عثمان).
قال الغازي بن ربيعة للحجاج: «يا أبا محمد، أرأيت هذه الدماء التي أصبت، هل يحييك في نفسك منها شيء، أو تتخوف لها عاقبة؟». قال: فجمع يده فضرب بها في صدري، ثم قال: «يا غاز ارتبت في أمرك، أو شككت في طاعتك؟ والله ما أود أن لي لبنان وسنير ذهباً مقطعاً أنفقها في سبيل الله مكان ما أبلاني الله من الطاعة».


هل حقاً كان الحجاج ظالماً كما يزعمون؟
لنجيب على السؤال فعلينا أن نعرف ما المقصود بالظلم أولاً. الظلم لغةً: وضع الشيء غير موضعه تعدياً (مقاييس اللغة 3|468). الظلم شرعاً: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والتصرف في حقّ الغير، ومجاوزة حدّ الشارع (الكليات ص594).


ولعل البعض يسأل: لماذا الدعوة إلى إنصاف الحجاج؟ أقول إن العدل والإنصاف واجب مع كل الناس. {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا}. وليس الحجاج وحده هو المقصود بل التاريخ الإسلامي كله يحتاج إلى دفاع عما ألحقه به المفترون من أكاذيب. فمرة كنت أحدث صديقاً لي عن عزة المسلمين أيام الصحابة والتابعين، فتمعّر وجهه وقال: لا أعادها الله علينا. فقلت: لم؟! قال: كان الحجاج في أيامهم إذا غضب على رجل أمر به فقطع رأسه. اليوم حالنا أفضل!!

أقول: شتان ما بين عصرنا وعصرهم، وما بين حالهم وحالنا، وما بين حكامهم وحكامنا. والحادثة التي أشار إليها صاحبي هي قصة عمير بن ظابئ التميمي من أشراف الكوفة، وهو أول رجل يقتله الحجاج بعد توليه الكوفة. حيث أنه لما وصل إليها، وصعد المنبر، قال عمير: «لعن الله بني أمية حيث يستعملون مثل هذا»، وأراد أن يرميه بالحجارة. وهي عادة لأهل الكوفة من قبل. فلما خطب الحجاج خطبته الشهيرة التي يقول بها «إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها»، سقط الحصى من يده وهو لا يشعر من شدة الرعب. ثم أمر الحجاج الجنود الاحتياط بأخذ عطائهم (الراتب السنوي) والتجهز للخروج في جيش المهلب لجهاد الخوارج، وأنذرهم ثلاثة أيام للخروج إلى المعسكر خارج الكوفة.

لكن أهل الكوفة تقاعسوا عن الجهاد وأرادوا القيام بتمرد، فتجمعوا في اليوم الثالث وكبروا تكبيراً عالياً في السوق، فقام إليهم الحجاج وصعد على المنبر وقال: «يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، إني سمعت تكبيرا في الأسواق ليس بالتكبير الذي يراد به الترغيب، ولكنه تكبير يراد به الترهيب. وقد عصفت عجاجة تحتها قصف. يا بني اللكيعة وعبيد العصا وأبناء الإماء والأيامى، ألا يربع كل رجل منكم على ظلمه، ويحسن حقن دمه، ويبصر موضع قدمه؟ فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالاً لما قبلها وأدباً لما بعدها». فقام إليه عمير بن ضابئ فقال: «أنا شيخ كبير وعليل: وهذا ابني هو أشب مني». فقبل الحجاج منه وقال: «هذا خير لنا من أبيه». فقال عنبسة للحجاج: «أتعرف هذا»؟ قال: «لا». قال: «هذا أحد قتلة عثمان». فقال الحجاج: «أي عدو الله! أفلا إلى أمير المؤمنين بعثت بديلاً؟ إني لأحسب أن في قتلك صلاح المِصرين». ثم أمر به فضربت عنقه. فخاف الناس وخرجوا جميعاً للجهاد (الكامل 2|281، الطبري 3|550)، حتى قال واحد لصحابه:
تجهز وأسرع فالحق الجيش لا أرى ... سوى الجيش إلا في المهالك مذهبا

تخير فإما أن تزور ابن ضابئٍ ... عميراً وإما أن تزور المهلبا
فمن تأمل هذا وجد أن الحجاج كان محقاً في قتله لهذا المجرم، وأن قتله قد حقق فائدة عظيمة. ولو لم يواجه الحجاج تمرد العراقيين بهذا الحزم لسقط في نظرهم ولخرجوا عليه كعادتهم. ومعلوم أن الجيش منذ أيام عمر ينقسم إلى جند نظاميين، وجند احتياط (وهم الغالبية) يتم استدعائهم عند الحملات الجهادية، ويصرف لهم راتب سنوي يسمى العطاء. وكانت عقوبة المتخلف عن الجهاد أن تنزع عمامته أمام الناس (عقوبة معنوية)، فلما تغير أهل العراق ولم يعد هذا ينفع، أضاف إليه مصعب بن الزبير حلق الرأس واللحية، ثم أضاف بشر بن مروان تعليق الرجل بمسمارين على الحائط. فلما جاء الحجاج ووجد هذا غير نافع، أمر بقتل الجندي المتخلف عن الجهاد. فانتظم الناس ورجعت الفتوحات إلى ما كانت في عهد عمر. نعم كان الحجاج قاسياً في عقوبته، لكن عامة الذين عاقبهم كانوا مخطئين، ولم تنفع معهم عقوبة أقل مما أوقع الحجاج، وباب التعزير مفتوح حسب ما يرى ولي الأمر.

فأين هذا وأين ما يجري اليوم في زماننا؟ الحجاج كان يقتل من يتخلف عن الجهاد، واليوم يُقتل من يدعوا للجهاد! الحجاج كان أفصح الناس، وكان حريصاً على اللغة العربية لذلك عرّب الدواوين، واليوم لا يستطيع أن يقرأ صفحة من ورقة مشكّلة! الحجاج فتح البلاد الواسعة، وبعض الحكام اليوم يبيعها للكفار. الحجاج كان يقرئ القرآن كل ثلاث ليالٍ، وهو الذي أمر بتشكيله وحفظه، فيما يُحارب اليوم من يُعلمه في بعض بلاد المسلمين. الحجاج مات ولم يترك إلا 300 درهم، وبعض حكامنا يملكون مليارات الدولارات. بل هم أغنى أغنياء العالم بتقرير فوربس. الحجاج ما تلتطخ اسمه قط بالفروج والخمور، وأما في عصرنا ... الله المستعان. ثم تقول حالنا اليوم أفضل؟ لقد هزلت حتى بان هزالها.

مراجع

  • كتب التاريخ القديمة، خاصة كتابات الطبري وابن تيمية والذهبي وابن كثير
  • الحجاج بن يوسف.. للحقيقة ألف وجه، أحمد تمام
  • الحجاج بن يوسف الثقفي المفترى عليه، د. محمود زيادة
  • لأبي عبد الله الذهبي

* بتصرف بسيط
 

ذكر ابن الأثر في تاريخه

أن الحجاج لما غلب جيش ابن الأشعث أخذ يبايع الناس وكان ظالما ، وكان لا يبايع أحدا إلا قال له اشهد على نفسك أنك كفرت ، يعني بنقضك البيعة وحملك السلاح ، فإن قال نعم بايعه ، وإلا قتله .

فأتاه رجل من خثعم كان معتزلا للناس كلهم ، فسأله الحجاج عن حاله فأخبره باعتزاله ، قال الحجاج ، بل أنت متربص بنا ، أتشهد أنك كافر ؟

قال الرجل :

بئس الرجل أنا أعبد الله ثمانين سنة ، ثم أشهد على نفسي بالكفر


قال الحجاج : أقتلك إذا ؟


قال الرجل : وإن قتلتني


فقتله الحجاج ، ولم يبق أحد من أهل الشام والعراق إلا رحمه ، وحزن لقتله

 

فتنة ابن
الأشعث - 1
=======

فِي هَذِهِ السَّنَةِ ( سنة 80 ) جَهَّزَ الْحَجَّاجُ الْجُيُوشَ مِنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمَا ; لِقِتَالِ رُتْبِيلَ مَلِكِ التُّرْكِ ; لِيَقْتَصُّوا مِنْهُ مَا كَانَ مِنْ قَتْلِ جَيْشِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ , فَجَهَّزَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنْ كُلٍّ مِنَ الْمِصْرَيْنِ ( الكوفة والبصرة ) عِشْرِينَ أَلْفًا , وأَخْذَ الْحَجَّاجُ فِي اسْتِعْرَاضِ هَذِهِ الْجُيُوشِ , وَبَذَلَ فِيهِمُ الْعَطَاءَ , أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَلْفَيْ أَلْفٍ ، سِوَى أُعْطِيَاتِهِمْ , وَكَانَ يُدْعَى هَذَا الْجَيْشُ : جَيْشَ الطَّوَاوِيسِ .

ثُمَّ اخْتَلَفَ رَأْيُ الْحَجَّاجِ فِيمَنْ يُؤَمِّرُ عَلَيْهِمْ , ثُمَّ وَقَعَ اخْتِيَارُهُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ , فَقَدَّمَهُ عَلَيْهِمْ , مَعَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ يُبْغِضُهُ جِدًّا , حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ : مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ إِلَّا هَمَمْتُ بِقَتْلِهِ .

وَدَخَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ يَوْمًا عَلَى الْحَجَّاجِ وَعِنْدَهُ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ , فَقَالَ : انْظُرْ إِلَى مِشْيَتِهِ , وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ .

فَأَسَرَّهَا الشَّعْبِيُّ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ

فَقَالَ ابْنُ الْأَشْعَثِ : وَأَنَا وَاللَّهِ لَأَجْهَدَنَّ أَنْ أُزِيلَهُ عَنْ سُلْطَانِهِ إِنْ طَالَ بِي وَبِهِ الْبَقَاءُ .

فَأَتَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْأَشْعَثِ ، عَمُّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ , فَقَالَ لِلْحَجَّاجِ : إِنِّي أَخَافُ أَنْ تُؤَمِّرَهُ فَلَا يَرَى لَكَ طَاعَةً إِذَا جَاوَزَ جِسْرَ الْفُرَاتِ .

فَقَالَ : لَيْسَ هُوَ هُنَالِكَ , هُوَ لِي أَهْيَبُ , وَمِنِّي أَرْهَبُ أَنْ يُخَالِفَ أَمْرِي , أَوْ يَخْرُجَ عَنْ طَاعَتِي , فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ .

فَسَارَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِالْجُيُوشِ نَحْوَ أَرْضِ رُتْبِيلَ

فَلَمَّا بَلَغَ رُتْبِيلَ مَجِيءُ ابْنِ الْأَشْعَثِ بِالْجُنُودِ إِلَيْهِ ، كَتَبَ إِلَيْهِ رُتْبِيلَ يَعْتَذِرُ مِمَّا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ , وَأَنَّهُ كَانَ لِذَلِكَ كَارِهًا , وَأَنَّهُمْ أَلْجَئُوهُ إِلَى قِتَالِهِمْ , وَسَأَلَ مِنَ ابْنِ الْأَشْعَثِ أَنْ يُصَالِحَهُ , وَأَنْ يَبْذُلَ لِلْمُسْلِمِينَ الْخَرَاجَ

فَلَمْ يُجِبْهُ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى ذَلِكَ , وَصَمَّمَ عَلَى دُخُولِ بِلَادِهِ

وَجَمَعَ رُتْبِيلُ جُنُودَهُ , وَتَهَيَّأَ لَهُ وَلِحَرْبِهِ

وَجَعَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ كَلَّمَا دَخَلَ بَلَدًا أَوْ مَدِينَةً , أَوْ أَخَذَ قَلْعَةً مِنْ بِلَادِ رُتْبِيلَ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا نَائِبًا مِنْ جِهَتِهِ , وَجَعَلَ مَعَهُ مَنْ يَحْفَظُهَا , وَجَعَلَ الْمَسَالِحَ عَلَى كُلِّ أَرْضٍ وَمَكَانٍ مَخُوفٍ , فَاسْتَحْوَذَ عَلَى بِلَادٍ وَمُدُنٍ كَثِيرَةٍ مِنْ بِلَادِ رُتْبِيلَ , وَغَنِمَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً جَزِيلَةً , وَسَبَى خَلْقًا كَثِيرَةً

ثُمَّ حَبَسَ ابْنُ الْأَشْعَثِ النَّاسَ عَنِ التَّوَغُّلِ فِي بِلَادِ رُتْبِيلَ حَتَّى يُصْلِحُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْبِلَادِ , وَيَتَقَوَّوْا بِمَا فِيهَا مِنَ الْمُغَلَّاتِ وَالْحَوَاصِلِ , ثُمَّ يَتَقَدَّمُوا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ إِلَى أَعْدَائِهِمْ , فَلَا يَزَالُونَ يُجَوِّزُونَ الْأَرَاضِيَ وَالْأَقَالِيمَ حَتَّى يُحَاصِرُوهُمْ فِي مَدِينَتِهِمْ - مَدِينَةِ الْعُظَمَاءِ - عَلَى الْكُنُوزِ وَالْأَمْوَالِ وَالذَّرَّارِي حَتَّى يَغْنَمُوهَا , ثُمَّ يَقْتُلُونَ مُقَاتِلَتَهُمْ , وَعَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ , وَكَانَ هَذَا هُوَ الرَّأْيُ .



ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ من الهجرة

كَتَبَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى الْحَجَّاجِ يُخْبِرُهُ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْفَتْحِ , وَمَا صَنَعَ اللَّهُ لَهُمْ , وَبِهَذَا الرَّأْيِ الَّذِي رَآهُ لَهُمْ .

فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ يَسْتَهْجِنُ رَأْيَهُ فِي ذَلِكَ , وَيَسْتَضْعِفُ عَقْلَهُ , وَيَقْرَعُهُ بِالْجُبْنِ وَالنُّكُولِ عَنِ الْحَرْبِ , وَيَأْمُرُهُ حَتْمًا بِدُخُولِ بِلَادِ رُتْبِيلَ , ثُمَّ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِكِتَابٍ ثَانٍ ، ثُمَّ ثَالِثٍ

فَلَمَّا تَوَارَدَتْ كُتُبُ الْحَجَّاجِ إِلَى ابن الأشعثِ يَحُثُّهُ عَلَى التَّوَغُّلِ فِي بِلَادِ رُتْبِيلَ , جَمَعَ مَنْ مَعَهُ , وَقَامَ فِيهِمْ , فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا كَانَ رَأَى مِنَ الرَّأْيِ فِي ذَلِكَ , وَبِمَا كَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ مِنَ الْأَمْرِ بِمُعَاجَلَةِ رُتْبِيلَ

فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَقَالُوا : لَا , بَلْ نَأْبَى عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ الْحَجَّاجِ , وَلَا نَسْمَعُ لَهُ وَلَا نُطِيعُ .

قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ الْكِنَانِيُّ , أَنَّ أَبَاهُ ( وهو صحابي ، وهو آخر مَن مات من الصحابة ) كَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ , وَكَانَ شَاعِرًا خَطِيبًا , وَكَانَ مِمَّا قَالَ : إِنَّ مَثَلَ الْحَجَّاجِ فِي هَذَا الرَّأْيِ وَمَثَلَنَا كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ لِأَخِيهِ : احْمِلْ عَبْدَكَ عَلَى الْفَرَسِ , فَإِنْ هَلَكَ هَلَكَ , وَإِنْ نَجَا فَلَكَ . إِنَّكُمْ إِنْ ظَفِرْتُمْ ، كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي سُلْطَانِهِ ( الحجاج ) وَإِنْ هَلَكْتُمْ كُنْتُمُ الْأَعْدَاءَ الْبُغَضَاءُ . ثُمَّ قَالَ : اخْلَعُوا عَدُوَّ اللَّهِ الْحَجَّاجَ - وَلَمْ يَذْكُرْ خَلْعَ عَبْدِ الْمَلِكِ - وَبَايِعُوا لِأَمِيرِكُمْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ , فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَوَّلُ خَالِعٍ لِلْحَجَّاجِ .

فَقَالَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ : خَلَعْنَا عَدُوَّ اللَّهِ ، وَوَثَبُوا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ فَبَايَعُوهُ عِوَضًا عَنِ الْحَجَّاجِ , وَلَمْ يَذْكُرُوا خَلْعَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ .

وَبَعَثَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى رُتْبِيلَ , فَصَالَحَهُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ ظَفِرَ بِالْحَجَّاجِ فَلَا خَرَاجَ عَلَى رُتْبِيلَ أَبَدًا

ثُمَّ سَارَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِالْجُنُودِ الَّذِينَ مَعَهُ مُقْبِلًا مِنْ سِجِسْتَانَ إِلَى الْحَجَّاجِ لِيُقَاتِلَهُ وَيَأْخُذَ مِنْهُ الْعِرَاقَ , ثُمَّ لَمَّا تَوَسَّطُوا الطَّرِيقَ قَالُوا : إِنَّ خَلْعَنَا لِلْحَجَّاجِ خَلْعٌ لِابْنِ مَرْوَانَ . فَخَلَعُوهُمَا جَمِيعًا , وَجَدَّدُوا الْبَيْعَةَ لِابْنِ الْأَشْعَثِ

فَبَايَعَهُمْ ابْنُ الْأَشْعَثِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسِنَةِ رَسُولِهِ , وَخَلْعِ أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ وَجِهَادِ الْمُحِلِّينَ . ( كل دعوة لثورة لا بد أن تكون أهدافها المُعلنة هي إحقاق الحق والعدل ، وذلك ليُقبل الناس عليها ويدخلوا فيها )

وَفِي غُبُونِ أَقَامَةِ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ بِكَشَّ صَابِرًا مُصَابِرًا لِلْأَعْدَاءِ مِنَ الْأَتْرَاكِ ، قَدِمَ عَلَيْهِ كِتَابُ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِخَلْعِهِ الْحَجَّاجَ ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَدْعُوهُ إِلَى ذَلِكَ .

فَأَبَى عَلَيْهِ الْمُهَلَّبُ ، وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ يَقُولُ لَهُ : إِنَّكَ يَا ابْنَ الْأَشْعَثِ قَدْ وَضَعْتَ رَجْلَكَ فِي رِكَابٍ طَوِيلٍ , أَبْقِ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , اللَّهَ اللَّهَ , انْظُرْ لِنَفْسِكَ فَلَا تُهْلِكْهَا , وَدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَسْفِكْهَا , وَالْجَمَاعَةِ فَلَا تُفَرِّقْهَا , وَالْبَيْعَةِ فَلَا تَنْكُثْهَا , فَإِنْ قُلْتَ : أَخَافُ النَّاسَ عَلَى نَفْسِي , فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخَافَهُ مِنَ النَّاسِ , فَلَا تُعَرِّضْهَا لِلَّهِ فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ , أَوِ اسْتِحْلَالِ مُحَرَّمٍ , وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ .

وَبَعَثَ الْمُهَلَّبُ كِتَابَ ابْنِ الْأَشْعَثِ بِرُمَّتِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ حَتَّى قَرَأَهُ , وَكَتَبَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْحَجَّاجِ : أَمَّا بَعْدُ , فَإِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ قَدْ أَقْبَلُوا إِلَيْكَ مِثْلَ السَّيْلِ الْمُنْحَدِرِ مِنْ عَلِ , لَيْسَ شَيْءٌ يَرُدُّهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى قَرَارِهِ , وَإِنَّ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ شِرَّةً فِي أَوَّلِ مَخْرَجِهِمْ , وَصَبَابَةً إِلَى أَبْنَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ , فَلَيْسَ شَيْءٌ يَرُدُّهُمْ حَتَّى يَصِلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ , وَيَشَمُّوا أَوْلَادَهُمْ , ثُمَّ وَاقِعْهُمْ عِنْدَهَا , فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .

فَلَمَّا قَرَأَ الْحَجَّاجُ كِتَابَهُ قَالَ : فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ , لَا وَاللَّهِ مَا لِي نَظَرَ , وَلَكِنْ لِابْنِ عَمِّهِ نَصَحَ .( ظن الحجاج أن المهلب أراد أن يخدعه بهذه النصيحة الحربية ، وظن أن المهلب أعلن الولاء له في الظاهر ، لكنه متحالف مع ابن الأشعث في الباطن ، لكن الحجاج عرف أن المهلب كان مخلصا له في النصيحة عندما وقعت المعركة بينه وبين أصحاب ابن الأشعث )

فَلَمَّا بَلَغَ الْحَجَّاجَ مَا صَنَعَ أصحابُ ابْنِ الْأَشْعَثِ مِنْ خَلْعِهِ وَخَلْعِ ابْنِ مَرْوَانَ , كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ , وَيَسْتَعْجِلُهُ فِي بَعْثِهِ الْجُنُودَ إِلَيْهِ .

وَلَمَّا وَقَعَ كِتَابُ الْحَجَّاجِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ هَالَهُ ذَلِكَ , ثُمَّ نَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ , وَبَعَثَ إِلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ , فَأَقْرَأَهُ كِتَابَ الْحَجَّاجِ

فَقَالَ خالد بن يزيد بن معاوية : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , إِنْ كَانَ هَذَا الْحَدَثُ مِنْ قِبَلِ خُرَاسَانَ فَخَفْهُ , وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ سِجِسْتَانَ فَلَا تَخَفْهُ .

ثُمَّ أَخَذَ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي تَجْهِيزِ الْجُنُودِ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْعِرَاقِ فِي نُصْرَةِ الْحَجَّاجِ , وَتَجْهِيزِ الْحَجَّاجِ لِلْخُرُوجِ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ

وَجَاءَ الْحَجَّاجُ حَتَّى نَزَلَ الْبَصْرَةَ , وَعَصَى الْحَجَّاجُ رَأْيَ الْمُهَلَّبِ فِيمَا أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِ , وَكَانَ فِيهِ النُّصْحُ وَالصِّدْقُ

وَجَعلَتْ كُتُبُ الْحَجَّاجِ لَا تَنْقَطِعُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بِخَبَرِ ابْنِ الْأَشْعَثِ صَبَاحًا وَمَسَاءً ; أَيْنَ نَزَلَ ؟ , وَمِنْ أَيْنَ ارْتَحَلَ ؟ , وَأَيُّ النَّاسِ إِلَيْهِ أَسْرَعُ ؟

وَجَعَلَ النَّاسُ يَلْتَفُّونَ عَلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ , حَتَّى قِيلَ : إِنَّهُ سَارَ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ فَارِسٍ , وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ رَاجِلٍ

وَخَرَجَ الْحَجَّاجُ فِي جُنُودِ الشَّامِ مِنَ الْبَصْرَةِ نَحْوَ ابْنِ الْأَشْعَثِ , فَنَزَلَ تُسْتَرَ , وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُطَهِّرَ بْنَ حَيٍّ الْعَكِّيَّ أَمِيرًا عَلَى الْمُقَدِّمَةِ , وَمَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زُمَيْتٍ أَمِيرًا آخَرَ , فَانْتَهَوْا إِلَى دُجَيْلٍ

فَإِذَا مُقَدِّمَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ عَلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبَانٍ الْحَارِثِيُّ , فَالْتَقَوْا فِي يَوْمِ الْأَضْحَى عِنْدَ نَهْرِ دُجَيْلٍ , فَهُزِمَتْ مُقَدِّمَةُ الْحَجَّاجِ , وَقَتَلَ أَصْحَابُ ابْنِ الْأَشْعَثِ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا , نَحْوَ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ , وَاحْتَازُوا مَا فِي مُعَسْكَرِهِمْ مِنْ خُيُولٍ وَقُمَاشٍ وَأَمْوَالٍ

وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى الْحَجَّاجِ بِهَزِيمَةِ أَصْحَابِهِ , فَأَخَذَهُ مَا دَبَّ وَدَرَجَ , وَقَدْ كَانَ قَائِمًا يَخْطُبُ , فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ , ارْجِعُوا إِلَى الْبَصْرَةِ , فَإِنَّهُ أَرْفَقُ بِالْجُنْدِ , فَرَجَعَ بِالنَّاسِ وَاتَّبَعَتْهُمْ خُيُولُ ابْنِ الْأَشْعَثِ ، لَا يُدْرِكُونَ مِنْهُمْ شَاذًّا إِلَّا قَتَلُوهُ , وَلَا فَاذًّا إِلَّا أَهْلَكُوهُ

وَمَضَى الْحَجَّاجُ هَارِبًا لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ , حَتَّى أَتَى الزَّاوِيَةَ فَعَسْكَرَ عِنْدَهَا , وَجَعَلَ يَقُولُ : لِلَّهِ دَرُّ الْمُهَلَّبِ ! أَيُّ صَاحِبِ حَرْبٍ هُوَ ؟! قَدْ أَشَارَ عَلَيْنَا بِالرَّأْيِ , وَلَكِنَّا لَمْ نَقْبَلْ .

وَأَنْفَقَ الْحَجَّاجُ عَلَى جَيْشِهِ - وَهُوَ بِهَذَا الْمَكَانِ - مِائَةً وَخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ , وَخَنْدَقَ حَوْلَ جَيْشِهِ خَنْدَقًا

وَجَاءَ أَهْلُ الْعِرَاقِ فَدَخَلُوا الْبَصْرَةَ , وَاجْتَمَعُوا بِأَهَالِيهِمْ وَشَمُّوا أَوْلَادَهُمْ

وَدَخَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ الْبَصْرَةَ , فَخَطَبَ النَّاسَ بِهَا

فَبَايَعُوهُ عَلَى خَلْعِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَنَائِبِهِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ , وَوَافَقَهُ عَلَى خَلْعِهِمَا جَمِيعُ مَنْ بِالْبَصْرَةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَالشُّيُوخِ وَالشَّبَابِ . ( لم يبقَ أحد من علماء العراق - سوى رجلان ، وهما : ابن سيرين ، ومطرف بن عبد الله الشخير - إلا خلع الحجاج وعبد الملك ، حتى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ تدخل في هذه الفتنة ) .

قَالَ أَيُّوبُ : قِيلَ لِابْنِ الْأَشْعَثِ : إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يُقْتَلَ النَّاسُ حَوْلَكَ كَمَا قُتِلُوا حَوْلَ هَوْدَجِ عَائِشَةَ يَوْمَ الْجَمَلِ , فَأَخْرِجِ الْحَسَنَ مَعَكَ , فَأَخْرَجَهُ .

وَقَدْ سَمَّى مِنْهُمْ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ طَائِفَةً مِنَ الْأَعْيَانِ ; فَمِنْهُمْ :
مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ الْمُزَنِيُّ
وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ , وَأَخُوهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ .
وَأَبُو مَرَّانَةَ الْعِجْلِيُّ ، قُتِلَ
وَعُقْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْغَافِرِ ، قُتِلَ
وَعُقْبَةُ بْنُ وَسَّاجٍ ، قُتِلَ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ غَالِبٍ الْجَهْضَمِيُّ ، قُتِلَ
وَأَبُو الْجَوْزَاءِ الرَّبَعِيُّ ، قُتِلَ
وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ
وَالنَّضِرُ بْنُ أَنَسٍ
وَعِمْرَانُ وَالِدُ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ
وَأَبُو الْمِنْهَالِ سَيَّارُ بْنُ سَلَامَةَ الرِّيَاحِيُّ
وَمُرَّةُ بْنُ دِبَابٍ الْهَدَادِيُّ
وَأَبُو نُجَيْدٍ الْجَهْضَمِيُّ
وَأَبُو شَيْخٍ الْهَنَائِيُّ
وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ :
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى
وَالشَّعْبِيُّ
وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ
وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ
وَالْمَعْرُورُ بْنُ سُوَيْدٍ
وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ
وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفِ
وَزُبَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ الْيَامِيَّانِ .

قَالَ أَيُّوبُ : فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ صُرِعَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ إِلَّا رَغِبَ عَنْ مَصْرَعِهِ ( ندم على ما فعل ) وَلَا نَجَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا حَمِدَ اللَّهَ الَّذِي سَلَّمَهُ .

ثُمَّ أَمَرَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِخَنْدَقٍ حَوْلَ الْبَصْرَةِ فَعَمِلَ ذَلِكَ , وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ .

 
فتنة ابن الأشعث - 2
=======





ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ
---------

فَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الزَّاوِيَةِ بَيْنَ ابْنِ الْأَشْعَثِ وَالْحَجَّاجِ , وَكَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ

ثُمَّ تَوَاقَعُوا يَوْمًا آخَرَ , فَقَالَ الْقُرَّاءُ - وَكَانَ عَلَيْهِمْ جَبَلَةُ بْنُ زَحْرٍ - : أَيُّهَا النَّاسُ , لَيْسَ الْفِرَارُ مِنْ أَحَدٍ بِأَقْبَحَ مِنْهُ مِنْكُمْ , فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ .

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ نَحْوَ ذَلِكَ
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : قَاتِلُوهُمْ عَلَى جَوْرِهِمْ , وَاسْتِذْلَالِهِمُ الضُّعَفَاءَ , وَإِمَاتَتِهِمُ الصَّلَاةَ .​

ثُمَّ حَمَلَتِ الْقُرَّاءُ - وَهُمُ الْعُلَمَاءُ - عَلَى جَيْشِ الْحَجَّاجِ حَمْلَةً صَادِقَةً , فَبَدَّعُوا فِيهِمْ , ثُمَّ رَجَعُوا ، فَإِذَا هُمْ بِمُقَدَّمِهِمْ جَبَلَةُ بْنُ زَحْرٍ صَرِيعًا , فَهَدَّهُمْ ذَلِكَ
فَنَادَاهُمْ جَيْشُ الْحَجَّاجِ : يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ , قَدْ قَتَلْنَا طَاغِيَتَكُمْ .

وَحَمَلَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ - أَحَدُ أُمَرَاءِ أَهْلِ الشَّامِ - عَلَى مَيْمَنَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ فَهَزَمَهَا

وَخَرَّ الْحَجَّاجُ لِلَّهِ سَاجِدًا بَعْدَمَا كَانَ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ , وَسَلَّ شَيْئًا مِنْ سَيْفِهِ , وَجَعَلَ يَتَرَحَّمُ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَيَقُولُ : مَا كَانَ أَكْرَمَهُ حِينَ صَبَرَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ .

ثُمَّ حَمَلَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ - وَهُوَ عَلَى خَيْلِ الْحَجَّاجِ - عَلَى مَيْسَرَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ - وَعَلَيْهَا الْأَبْرَدُ بْنُ قُرَّةَ التَّمِيمِيُّ - فَانْهَزَمُوا , وَلَمْ يُقَاتِلُوا كَثِيرَ قِتَالٍ

فَأَنْكَرَ النَّاسُ مِنْهُمْ ذَلِكَ , وَكَانَ أَمِيرُ مَيْسَرَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ - الْأَبْرَدُ - شُجَاعًا لَا يَفِرُّ , وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ خَامَرَ ( خان ) فَنُقِضَتِ الصُّفُوفُ , وَرَكِبَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ,

وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ فِي هَذَا الْيَوْمِ , وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ : أَبُو الطُّفَيْلِ بْنُ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ اللَّيْثِيُّ .

وَكَانَ ابْنُ الْأَشْعَثِ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى الْقِتَالِ , فَلَمَّا رَأَى مَا النَّاسُ فِيهِ ، أَخَذَ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَسَارَ حَتَّى دَخَلَ الْكُوفَةَ
فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا عَلَى خَلْعِ الْحَجَّاجِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ .

وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ , وَكَثُرَ مُتَابِعُو ابْنِ الْأَشْعَثِ عَلَى ذَلِكَ , وَاشْتَدَّ الْحَالُ , وَتَفَرَّقَتِ الْكَلِمَةُ جِدًّا , وَعَظُمَ الْخَطْبُ , وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ .

وَعَمَدَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَبَايَعُوهُ

فَقَاتَلَ الْحَجَّاجَ خَمْسَ لَيَالٍ أَشَدَّ الْقِتَالِ , ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَحِقَ بِابْنِ الْأَشْعَثِ , وَتَبِعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ

فَاسْتَنَابَ الْحَجَّاجُ عَلَى الْبَصْرَةِ أَيُّوبَ بْنَ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي عَقِيلٍ الثقفي


وَقْعَةُ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ
----------


ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ . وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ لَمَّا قَصَدَ الْكُوفَةَ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا , فَتَلَقَّوْهُ , وَحَفُّوا بِهِ , وَدَخَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ

غَيْرَ أَنَّ شِرْذِمَةً قَلِيلَةً أَرَادَتْ أَنْ تُقَاتِلَهُ دُونَ مَطَرِ بْنِ نَاجِيَةَ نَائِبِ الْحَجَّاجِ , فَلَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ , فَعَدَلُوا إِلَى الْقَصْرِ

فَلَمَّا وَصَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى الْكُوفَةِ أَمَرَ بِالسَّلَالِيمِ فَنُصِبَتْ عَلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ , فَأَخَذَهُ , وَاسْتَنْزَلَ مَطَرَ بْنَ نَاجِيَةَ , وَأَرَادَ قَتْلَهُ

فَقَالَ لَهُ : اسْتَبْقِنِي ; فَإِنِّي خَيْرٌ مِنْ فُرْسَانِكَ .

فَحَبَسَهُ , ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ فَأَطْلَقَهُ وَبَايَعَهُ

وَاسْتَوْثَقَ لِابْنِ الْأَشْعَثِ أَمْرُ الْكُوفَةِ , وَانْضَمَّ إِلَيْهِ مَنْ جَاءَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ , وَكَانَ مِمَّنْ قَدِمَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ , وَأَمَرَ بِالْمَسَالِحِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ , وَحُفِظَتِ الثُّغُورُ وَالطُّرُقُ وَالْمَسَالِكُ .

ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ رَكِبَ فَيْمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ الشَّامِيَّةِ مِنَ الْبَصْرَةِ فِي الْبَرِّ , حَتَّى مَرَّ بَيْنَ الْقَادِسِيَّةِ وَالْعُذَيْبِ

وَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ الْأَشْعَثِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْعَبَّاسِ فِي خَيْلٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْمَصْرَيْنِ , فَمَنَعُوا الْحَجَّاجَ مِنْ نُزُولِ الْقَادِسِيَّةِ

فَسَارَ الْحَجَّاجُ حَتَّى نَزَلَ دَيْرَ قُرَّةَ

وَجَاءَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ الْبَصْرِيَّةِ وَالْكُوفِيَّةِ حَتَّى نَزَلَ دَيْرَ الْجَمَاجِمِ , وَمَعَهُ جُنُودٌ كَثِيرَةٌ , وَفِيهِمُ الْقُرَّاءُ مِنَ الْمِصْرَيْنِ , وَخَلْقٌ مِنَ الصَّالِحِينَ

وَكَانَ الْحَجَّاجُ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ : قَاتَلَ اللَّهُ ابْنَ الْأَشْعَثِ , أَمَا كَانَ يَزْجُرُ الطَّيْرَ حَيْثُ رَآنِي قَدْ نَزَلْتُ دَيْرَ قُرَّةَ , وَنَزَلَ هُوَ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ ؟ .( يعني أن الحجاج تفاءل باسم القرية دير قُرَّة ، لأنها تدل على قُرَّة العين , بينما دير الجماجم تدل على قطع الرؤوس )

وَكَانَ جُمْلَةُ مَنِ اجْتَمَعَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ مِائَةُ أَلْفِ مُقَاتِلٍ , مِمَّنْ يَأْخُذُ الْعَطَاءَ , وَمَعَهُمْ مِثْلُهُمْ مِنْ مَوَالِيهِمْ

وَقَدِمَ عَلَى الْحَجَّاجِ فِي غُبُونِ ذَلِكَ أَمْدَادٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الشَّامِ

وَخَنْدَقَ كُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى نَفْسِهِ وَحَوْلَ جَيْشِهِ خَنْدَقًا يُمْتَنَعُ بِهِ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ

غَيْرَ أَنَّ النَّاسَ كَانَ يَبْرُزُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ , فَيَقْتَتِلُونَ قِتَالًا شَدِيدًا فِي كُلِّ يَوْمٍ , حَتَّى أُصِيبَ مِنْ رُءُوسِ النَّاسِ خَلْقٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ , وَاسْتَمَرَّ هَذَا الْحَالُ مُدَّةً طَوِيلَةً

وَاجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ مِنْ أَهْلِ الْمَشُورَةِ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ , فَقَالُوا لَهُ : إِنْ كَانَ أَهْلُ الْعِرَاقِ يُرْضِيهِمْ مِنْكَ أَنْ تَعْزِلَ عَنْهُمُ الْحَجَّاجَ , فَهُوَ أَيْسَرُ مِنْ قِتَالِهِمْ وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ

فَاسْتَحْضَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ عِنْدَ ذَلِكَ أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ , وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ , وَمَعَهُمَا جُنُودٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا , وَكَتَبَ مَعَهُمَا كِتَابًا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ يَقُولُ لَهُمْ : إِنْ كَانَ يُرْضِيكُمْ مِنِّي عَزْلُ الْحَجَّاجِ عَنْكُمْ عَزَلْتُهُ , وَأَبْقَيْتُ عَلَيْكُمْ أُعْطِيَّاتِكُمْ مِثْلَ أَهْلِ الشَّامِ , وَلْيَخْتَرِ ابْنُ الْأَشْعَثِ أَيَّ بَلَدٍ شَاءَ يَكُونُ عَلَيْهِ أَمِيرًا مَا عَاشَ وَعِشْتُ , وَتَكُونُ إِمْرَةُ الْعِرَاقِ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ .

وَقَالَ فِي عَهْدِهِ هَذَا : فَإِنْ لَمْ يُجِبْ أَهْلُ الْعِرَاقِ إِلَى ذَلِكَ ، فَالْحَجَّاجُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ , وَإِلَيْهِ إِمْرَةُ الْحَرْبِ , وَمُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي طَاعَتِهِ وَتَحْتَ أَمْرِهِ , لَا يَخْرُجُونَ عَنْ رَأْيِهِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ .

وَلَمَّا بَلَغَ الْحَجَّاجَ مَا كَتَبَ بِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ عَزْلِهِ إِنْ رَضُوا بِهِ , شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مَشَقَّةً عَظِيمَةً جِدًّا , وَعَظُمَ شَأْنُ هَذَا الرَّأْيِ عِنْدَهُ , وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , وَاللَّهِ لَئِنْ أَعْطَيْتَ أَهْلَ الْعِرَاقِ نَزْعِي عَنْهُمْ , لَا يَلْبَثُونَ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى يُخَالِفُوكَ وَيَسِيرُوا إِلَيْكَ , وَلَا يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا جُرْأَةً عَلَيْكَ , أَلَمْ تَرَ وَتَسْمَعْ بِوُثُوبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَعَ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ عَلَى ابْنِ عَفَّانَ ؟ ، فَلَمَّا سَأَلَهُمْ ( عثمان ) : مَا تُرِيدُونَ ؟ , قَالُوا : نَزْعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ , فَلَمَّا نَزَعَهُ , لَمْ تَتِمَّ لَهُمُ السَّنَةُ حَتَّى سَارُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ , وَإِنَّ الْحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ , كَانَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا ارْتَأَيْتَ , وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ .

فَأَبَى عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَّا عَرْضَ هَذِهِ الْخِصَالِ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ كَمَا أَمَرَ

فَتَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ , فَنَادَى عَبْدُ اللَّهِ : يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْعِرَاقِ , أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكُمْ كَيْتَ وَكَيْتَ , فَذَكَرَ مَا كَتَبَ بِهِ أَبُوهُ مَعَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ .

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ : وَأَنَا رَسُولُ أَخِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْكُمْ بِذَلِكَ .

فَقَالُوا : نَنْظُرُ فِي أَمْرِنَا غَدًا , وَنَرُدُّ عَلَيْكُمُ الْخَبَرَ عَشِيَّةً , ثُمَّ انْصَرَفُوا

فَاجْتَمَعَ جَمِيعُ الْأُمَرَاءِ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ , فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا , وَنَدَبَهُمْ إِلَى قَبُولِ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَزْلِ الْحَجَّاجِ عَنْهُمْ , وَبَيْعَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ , وَإِبْقَاءِ الْأُعْطِيَّاتِ , وَإِمْرَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى الْعِرَاقِ بَدَلَ الْحَجَّاجِ .

فَنَفَرَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ , وَقَالُوا : لَا وَاللَّهِ لَا نَقْبَلُ ذَلِكَ ; نَحْنُ أَكْثَرُ عَدَدًا وَعُدَدًا , وَهُمْ فِي ضِيقٍ مِنَ الْحَالِ , وَقَدْ حَكَمْنَا عَلَيْهِمْ وَذَلُّوا لَنَا , وَاللَّهِ لَا نُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ أَبَدًا .

ثُمَّ جَدَّدُوا خَلْعَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ثَانِيَةً , وَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ كُلُّهُمْ .

فَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ وَعَمَّهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ الْخَبَرُ قَالَا لِلْحَجَّاجِ : شَأْنُكَ بِهِمْ إِذًا , فَنَحْنُ فِي طَاعَتِكَ كَمَا أَمَرَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ . فَكَانَا إِذَا لَقِيَاهُ سَلَّمَا عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ , وَيُسَلِّمُ هُوَ أَيْضًا عَلَيْهِمْ بِالْإِمْرَةِ

وَتَوَلَّى الْحَجَّاجُ أَمْرَ الْحَرْبِ وَتَدْبِيرَهَا كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ , فَعِنْدَ ذَلِكَ بَرَزَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِلْقِتَالِ وَالْحَرْبِ ,

فَجَعَلَ الْحَجَّاجُ عَلَى مَيْمَنَتِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سُلَيْمَانَ الْكَلْبِيَّ , وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عُمَارَةَ بْنَ تَمِيمٍ اللَّخْمِيَّ , وَعَلَى الْخَيْلِ سُفْيَانَ بْنَ الْأَبْرَدِ , وَعَلَى الرَّجَّالَةِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَبِيبٍ الْحَكَمِيَّ ,

وَجَعَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ عَلَى مَيْمَنَتِهِ الْحَجَّاجَ بْنَ حَارِثَةَ الْخَثْعَمِيَّ , وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ الْأَبْرَدَ بْنَ قُرَّةَ التَّمِيمِيَّ , وَعَلَى الْخَيَّالَةِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ , وَعَلَى الرَّجَّالَةِ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍّ الزُّهْرِيَّ , وَكَانَ فِي الْقُرَّاءِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ , وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ , وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى , وَكُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ - وَكَانَ شُجَاعًا فَاتِكًا عَلَى كِبَرِ سِنِّهِ - وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيُّ وَغَيْرُهُمْ .

وَجَعَلُوا يَقْتَتِلُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ , وَأَهْلُ الْعِرَاقِ تَأْتِيهِمُ الْمِيرَةُ ( الطعام ) مِنَ الرَّسَاتِيقِ وَالْأَقَالِيمِ , مِنَ الْعَلَفِ وَالطَّعَامِ وَغَيْرِهِ , وَأَمَّا أَهْلُ الشَّامِ الَّذِينَ مَعَ الْحَجَّاجِ فَفِي ضِيقٍ مِنَ الْعَيْشِ , وَقِلَّةٍ مِنَ الطَّعَامِ , وَقَدْ فَقَدُوا اللَّحْمَ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَجِدُونَهُ

وَمَا زَالَتِ الْحَرْبُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كُلِّهَا , حَتَّى انْسَلَخَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُمْ عَلَى حَالِهِمْ وَقِتَالِهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ , أَوْ يَوْمٍ بَعْدَ يَوْمٍ , وَالدَّائِرَةُ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ فِي أَكْثَرِ الْأَيَّامِ .




ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ
========



اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالنَّاسُ مُتَوَاقِفُونَ لِقِتَالِ الْحَجَّاجِ وَأَصْحَابِهِ بِدَيْرِ قُرَّةَ , وَابْنُ الْأَشْعَثِ وَأَصْحَابُهُ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ , وَالْمُبَارَزَةُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بَيْنَهُمْ وَاقِعَةٌ , وَفِي غَالِبِ الْأَيَّامِ تَكُونُ النُّصْرَةُ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ , حَتَّى قِيلَ : إِنَّ أَصْحَابَ ابْنِ الْأَشْعَثِ - وَهُمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ - كَسَرُوا أَهْلَ الشَّامِ - وَهُمْ أَصْحَابُ الْحَجَّاجِ - بِضْعًا وَثَمَانِينَ مَرَّةً يَنْتَصِرُونَ عَلَيْهِمْ .

وَمَعَ هَذَا ، فَالْحَجَّاجُ ثَابِتٌ فِي مَكَانِهِ صَابِرٌ وَمُصَابِرٌ , لَا يَتَزَحْزَحُ عَنْ مَوْضِعِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ , بَلْ إِذَا حَصَلَ لَهُ ظَفَرٌ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ يَتَقَدَّمُ بِجَيْشِهِ إِلَى نَحْرِ عَدُّوِهِ , وَكَانَ لَهُ خِبْرَةٌ بِالْحَرْبِ , وَمَا زَالَ ذَلِكَ دَأْبَهُ وَدَأْبَهُمْ حَتَّى أَمَرَ بِالْحَمْلَةِ عَلَى كَتِيبَةِ الْقُرَّاءِ ; لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا تَبَعًا لَهُمْ , وَهُمُ الَّذِينَ يُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ , وَالنَّاسُ يَقْتَدُونَ بِهِمْ

فَصَبَرَ الْقُرَّاءُ لِحَمْلَةِ جَيْشِهِ

ثُمَّ جَمَعَ الْحَجَّاجُ الرُّمَاةَ مِنْ جَيْشِهِ وَحَمَلَ بِهِمْ , وَمَا انْفَكَّ حَتَّى قَتلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا , ثُمَّ حَمَلَ عَلَى جَيْشِ ابْنِ الْأَشْعَثِ

فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ ابْنِ الْأَشْعَثِ وَذَهَبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ

وَهَرَبَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ , وَمَعَهُ فَلٌّ قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ ,

فَأَتْبَعُهُ الْحَجَّاجُ جَيْشًا كَثِيفًا مَعَ عِمَارَةَ بْنِ تَمِيمٍ اللَّخْمِيِّ , وَمَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ , وَالْإِمْرَةُ لِعِمَارَةَ

فَسَاقُوا وَرَاءَهُمْ يَطْرُدُونَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَظْفَرُونَ بِهِ قَتْلًا أَوْ أَسْرًا

فَمَا زَالَ ابْنُ الْأَشْعَثِ يَسُوقُ وَيَخْتَرِقُ الْأَقَالِيمَ وَالْكُورَ وَالرَّسَاتِيقَ , وَهُمْ فِي أَثَرِهِ , حَتَّى وَصَلَ إِلَى كَرْمَانَ ، وَاتَّبَعَهُ الشَّامِيُّونَ

ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ قصد إِلَى بِلَادِ رُتْبِيلَ مَلِكِ التُّرْكِ , وَمَرَّ ابْنُ الْأَشْعَثِ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى بِلَادِ رُتْبِيلَ عَلَى عَامِلٍ لَهُ فِي مَدِينَةِ بُسْتَ , كَانَ ابْنُ الْأَشْعَثِ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَيها عِنْدَ رُجُوعِهِ إِلَى الْعِرَاقِ

فَأَكْرَمَهُ ذَلِكَ الْعَامِلُ , وَأَهْدَى إِلَيْهِ هَدَايَا وَأَنْزَلَهُ ، فَعَلَ ذَلِكَ خَدِيعَةً بِهِ وَمَكْرًا , وَقَالَ لَهُ : ادْخُلْ إِلَى عِنْدِي إِلَى الْبَلَدِ لِتَتَحَصَّنَ بِهَا مِنْ عَدُوِّكَ , وَلَكِنْ لَا تَدَعْ أَحَدًا مِمَّنْ مَعَكَ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ .

فَأَجَابَهُ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى ذَلِكَ

وَإِنَّمَا أَرَادَ العاملُ الْمَكْرَ بِهِ فَمَنْعَهُ أَصْحَابُهُ

فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ ابْنُ الْأَشْعَثِ فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ

فَلَمَّا دَخَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ الْمَدِينَةَ ، وَثَبَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ فَمَسَكَهُ وَأَوْثَقَهُ بِالْحَدِيدِ , وَأَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ بِهِ يَدًا عِنْدَ الْحَجَّاجِ

وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ رُتْبِيلَ سُرَّ بِقُدُومِ ابْنِ الْأَشْعَثِ , فَلَمَّا بَلَغَهُ مَا حَدَثَ لَهُ مِنْ جِهَةِ ذَلِكَ الْعَامِلِ , سَارَ حَتَّى أَحَاطَ بِبُسْتَ , وَأَرْسَلَ إِلَى عَامِلِهَا يَقُولُ لَهُ : وَاللَّهِ لَئِنْ آذَيْتَ ابْنَ الْأَشْعَثِ ، لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَسَتَنْزِلَكَ , وَأَقْتُلَ جَمِيعَ مَنْ فِي بَلَدِكَ .

فَخَافَهُ ذَلِكَ الْعَامِلُ , وَسَيَّرَ إِلَيْهِ ابْنَ الْأَشْعَثِ , فَأَكْرَمَهُ رُتْبِيلُ , وَأَنْزَلَهُ عِنْدَهُ , وَأَمَّنَهُ وَعَظَّمَهُ . ( رتبيل يريد ابن الأشعث ليساوم به الحجاج ، وليس محبةً في ابن الأشعث )

فَقَالَ ابْنُ الْأَشْعَثِ لرُتْبِيلَ : إِنَّ هَذَا الْعَامِلَ كَانَ عَامِلِي وَمِنْ جِهَتِي , فَغَدَرَ بِي , وَفَعَلَ مَا رَأَيْتَ ، فَأْذَنْ لِي فِي قَتْلِهِ .

فَقَالَ رُتْبِيلُ : قَدْ أَمَّنْتُهُ .

وَكَانَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ , وَكَانَ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ هُنَالِكَ فِي بِلَادِ رُتْبِيلَ

ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْفَلِّ الَّذِينَ هَرَبُوا مِنَ الْحَجَّاجِ اجْتَمَعُوا وَسَارُوا وَرَاءَ ابْنِ الْأَشْعَثِ لِيُدْرِكُوهُ فَيَكُونُوا مَعَهُ , وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ سِتِّينَ أَلْفًا , فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى سِجِسْتَانَ ، وَجَدُوا ابْنَ الْأَشْعَثِ قَدْ دَخَلَ إِلَى عِنْدِ رُتْبِيلَ ، فَتَغَلَّبُوا عَلَى سِجِسْتَانَ , وَعَذَّبُوا عَامِلَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ الْبِعَارَ وَإِخْوَتَهُ وَقَرَائِبَهُ , وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ , وَانْتَشَرُوا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ وَأَخَذُوهَا , ثُمَّ كَتَبُوا إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ : أَنِ اخْرُجْ إِلَيْنَا حَتَّى نَكُونَ مَعَكَ ; نَنْصُرُكَ عَلَى مَنْ يُخَالِفُكَ , وَنَأْخُذُ بِلَادَ خُرَاسَانَ , فَإِنَّ بِهَا جُنْدًا عَظِيمًا مِنَّا , فَنَكُونُ بِهَا حَتَّى يُهْلِكَ اللَّهُ الْحَجَّاجَ أَوْ عَبْدَ الْمَلِكِ , فَنَرَى بَعْدَ ذَلِكَ رَأَيْنَا

فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ , وَسَارَ بِهِمْ قَلِيلًا إِلَى نَحْوِ خُرَاسَانَ

فَاعْتَزَلَهُ شِرْذِمَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ

فَقَامَ فِيهِمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ خَطِيبًا , فَذَكَرَ غَدْرَهُمْ وَنُكُولَهُمْ عَنِ الْحَرْبِ , وَقَالَ : لَا حَاجَةَ لِي بِكُمْ , وَأَنَا ذَاهِبٌ إِلَى صَاحِبِي رُتْبِيلَ فَأَكُونُ عِنْدَهُ , ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُمْ
وَتَبِعَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ , وَبَقِيَ مُعْظَمُ الْجَيْشِ

فَلَمَّا انْفَصَلَ عَنْهُمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ بَايَعُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ الْهَاشِمِيَّ , وَسَارُوا مَعَهُ إِلَى خُرَاسَانَ

فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَمِيرُهَا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ لِيَمْنَعَهُمْ مِنْ دُخُولِ بِلَادِهِ , وَكَتَبَ يَزِيدُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ لَهُ : إِنَّ فِي الْبِلَادِ مُتَّسَعًا , فَاذْهَبْ إِلَى أَرْضٍ لَيْسَ بِهَا سُلْطَانٌ , فَإِنِّي أَكْرَهُ قِتَالَكَ , وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مَالًا بَعَثْتُ إِلَيْكَ .

فَقَالَ لَهُ : إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ , وَإِنَّمَا جِئْنَا نَسْتَرِيحُ وَنُرِيحُ خَيْلَنَا , ثُمَّ نَذْهَبُ , وَلَيْسَتْ بِنَا حَاجَةٌ إِلَى حَاجَةٍ مِمَّا عَرَضْتَ , ثُمَّ أَقْبَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى أَخْذِ الْخَرَاجِ مِمَّا حَوْلُهُ مِنَ الْبِلَادِ مِنْ كُورِ خُرَاسَانَ

فَخَرَجَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَمَعَهُ أَخُوهُ الْمُفَضَّلُ فِي جُيُوشٍ كَثِيفَةٍ , فَلَمَّا صَادَفُوهُمُ اقْتَتَلُوا غَيْرَ كَثِيرٍ , ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبَّاسٍ , وَقَتَلَ يَزِيدُ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً , وَأَسَرَ مِنْهُمْ أَسْرَى كَثِيرَةً , وَاحْتَازَ مَا فِي مُعَسْكَرِهِمْ , وَبَعَثَ بِالْأُسَارَى - وَفِيهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ - إِلَى الْحَجَّاجِ .
وَلَمَّا قَدِمَتِ الْأُسَارَى عَلَى الْحَجَّاجِ قَتَلَ أَكْثَرَهُمْ , وَعَفَا عَنْ بَعْضِهِمْ .


كَيْفِيَّةِ دُخُولِ الْحَجَّاجِ الْكُوفَةَ
-----------------


عَنْ عَاصِمٍ قَالَ : خَطَبَ الْحَجَّاجُ أَهْلَ الْعِرَاقِ بَعْدَ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ فَقَالَ : يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ , إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدِ اسْتَبْطَنَكُمْ , فَخَالَطَ اللَّحْمَ وَالدَّمَ وَالْعَصَبَ وَالْمَسَامِعَ وَالْأَطْرَافَ ، ثُمَّ أَفْضَى إِلَى الْأَسْمَاخِ وَالْأَمْخَاخِ وَالْأَشْبَاحِ وَالْأَرْوَاحِ , ثُمَّ ارْتَفَعَ فَعَشَّشَ , ثُمَّ بَاضَ وَفَرَّخَ , ثُمَّ دَبَّ وَدَرَجَ , فَحَشَاكُمْ نِفَاقًا وَشِقَاقًا , وَأَشْعَرَكُمْ خِلَافًا , اتَّخَذْتُمُوهُ دَلِيلًا تَتَّبِعُونَهُ , وَقَائِدًا تُطِيعُونَهُ , وَمُؤَامِرًا تُشَاوِرُونَهُ وَتَسْتَأْمِرُونَهُ , فَكَيْفَ تَنْفَعُكُمْ تَجْرِبَةٌ أَوْ يَنْفَعُكُمْ بَيَانٌ ؟ , أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ حَيْثُ رُمْتُمُ الْمَكْرَ وَأَجْمَعْتُمْ عَلَى الْكُفْرِ , وَظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ يَخْذُلُ دِينَهُ وَخِلَافَتَهُ ؟ , وَأَنَا أَرْمِيكُمْ بِطَرْفِي وَأَنْتُمْ تَتَسَلَّلُونَ لِوَاذًا , وَتَنْهَزِمُونَ سِرَاعًا .

يَوْمُ الزَّاوِيَةِ وَمَا يَوْمُ الزَّاوِيَةِ ؟ , مِمَّا كَانَ مِنْ فَشَلِكُمْ وَتَنَازُعِكُمْ وَتَخَاذُلِكُمْ , وَبَرَاءَةِ اللَّهِ مِنْكُمْ , وَنُكُوسِ قُلُوبِكُمْ ; إِذْ وَلَّيْتُمْ كَالْإِبِلِ الشَّارِدَةِ عَنْ أَوْطَانِهَا النَّوَازِعِ , لَا يَسْأَلُ الْمَرْءُ عَنْ أَخِيهِ , وَلَا يَلْوِي الشَّيْخُ عَلَى بَنِيهِ , حِينَ عَضَّكُمُ السِّلَاحُ , وَنَخَسَتْكُمُ الرِّمَاحُ .

يَوْمُ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ , وَمَا يَوْمُ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ ! بِهَا كَانَتِ الْمَعَارِكُ وَالْمَلَاحِمُ , بِضَرْبٍ يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ , وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ ,

يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ , يَا أَهْلَ الْكَفَرَاتِ بَعْدَ الْفَجَرَاتِ , وَالْغَدَرَاتِ بَعْدَ الْخَتَرَاتِ , وَالنَّزْوَةِ بَعْدَ النَّزَوَاتِ , إِنْ بَعَثْنَاكُمْ إِلَى ثُغُورِكُمْ ، غَلَلْتُمْ وَخُنْتُمْ , وَإِنْ أَمِنْتُمْ أَرَجَفْتُمْ , وَإِنْ خِفْتُمْ نَافَقْتُمْ , لَا تَذْكُرُونَ نِعْمَةً ، وَلَا تَشْكُرُونَ مَعْرُوفًا , هَلِ اسْتَخَفَّكُمْ نَاكِثٌ , أَوِ اسْتَغْوَاكُمْ غَاوٍ , أَوِ اسْتَنْقَذَكُمْ عَاصٍ , أَوِ اسْتَنْصَرَكُمْ ظَالِمٌ , أَوِ اسْتَعْضَدَكُمْ خَالِعٌ إِلَّا لَبَّيْتُمْ دَعْوَتَهُ ؟ , وَأَجَبْتُمْ صَيْحَتَهُ ؟ , وَنَفَرْتُمْ إِلَيْهِ خِفَافًا وَثِقَالًا , وَفُرْسَانًا وَرِجَالًا ؟

يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ , هَلْ شَغَبَ شَاغِبٌ , أَوْ نَعَبَ نَاعِبٌ , أَوْ زَفَرَ زَافِرٌ إِلَّا كُنْتُمْ أَتْبَاعَهُ وَأَنْصَارَهُ ؟

يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ , أَلَمْ تَنْفَعْكُمُ الْمَوَاعِظُ ؟ , أَلَمْ تَزْجُرْكُمُ الْوَقَائِعُ ؟ , أَلَمْ يُشَدِّدِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَطْأَتَهُ , وَيُذِقْكُمْ حَرَّ سَيْفِهِ ؟ , وَأَلِيمَ بَأْسِهِ وَمَثُلَاتِهِ ؟

ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ فَقَالَ : يَا أَهْلَ الشَّامِ , إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ كَالظَّلِيمِ الرَّامِحِ عَنْ فِرَاخِهِ , يَنْفِي عَنْهَا الْقَذَرَ , وَيُبَاعِدُ عَنْهَا الْحَجَرَ , وَيُكِنُّهَا مِنَ الْمَطَرِ , وَيَحْمِيهَا مِنَ الضِّبَابِ , وَيَحْرُسُهَا مِنَ الذُّبَابِ .

يَا أَهْلَ الشَّامِ , أَنْتُمْ الْجُنَّةُ وَالرِّدَاءُ , وَأَنْتُمُ الْمُلَاءَةُ وَالْحِذَاءُ , أَنْتُمُ الْأَوْلِيَاءُ وَالْأَنْصَارُ , وَالشِّعَارُ وَالدِّثَارُ , بِكُمْ يُذَبُّ عَنِ الْبَيْعَةِ وَالْحَوْزَةِ , وَبِكُمْ تُرْمَى كَتَائِبُ الْأَعْدَاءِ , وَيُهْزَمُ مَنْ عَانَدَ وَتَوَلَّى .

وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ يَوْمَ ظَهَرَ عَلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ نَادَى مُنَادِيهِ فِي النَّاسِ : مَنْ رَجَعَ فَهُوَ آمِنٌ , وَمَنْ لَحِقَ بِقُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ بِالرَّيِّ فَهُوَ آمِنٌ

فَلَحِقَ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ

فَأَمَّنَهُمُ الْحَجَّاجُ , وَمَنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ ، شَرَعَ الْحَجَّاجُ فِي تَتَبُّعِهِمْ , فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا , حَتَّى كَانَ آخِرَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ .

وَكَانَ الشَّعْبِيُّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ صَارَ إِلَى قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ , فَذَكَرَهُ يَوْمًا الْحَجَّاجُ

فَقِيلَ لَهُ : إِنَّهُ سَارَ إِلَى قُتَيْبَةَ .

فَكَتَبَ إِلَيْهِ : أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِالشَّعْبِيِّ .

قَالَ الشَّعْبِيُّ : فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ , ثُمَّ قُلْتُ : أَيُّهَا الْأَمِيرُ , إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَمَرُونِي أَنْ أَعْتَذِرَ إِلَيْكَ بِغَيْرِ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ الْحَقُّ , وَايْمُ اللَّهِ لَا أَقُولُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَّا الْحَقَّ , قَدْ وَاللَّهِ تَمَرَّدْنَا عَلَيْكَ , وَحَرَّضْنَا وَجَهَدْنَا كُلَّ الْجَهْدِ فَمَا آلَوْنَا , فَمَا كُنَّا بِالْأَقْوِيَاءِ الْفَجَرَةِ , وَلَا بِالْأَتْقِيَاءِ الْبَرَرَةِ , وَلَقَدْ نَصَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا , وَأَظْفَرَكَ بِنَا , فَإِنْ سَطَوْتَ فَبِذُنُوبِنَا وَمَا جَرَّتْ إِلَيْكَ أَيْدِينَا , وَإِنْ عَفَوْتَ عَنَّا فَبِحِلْمِكَ , وَبَعْدُ فَالْحُجَّةُ لَكَ عَلَيْنَا .

فَقَالَ الْحَجَّاجُ : أَنْتَ وَاللَّهِ يَا شَعْبِيُّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّنْ يَدْخُلُ عَلَيْنَا يَقْطُرُ سَيْفُهُ مِنْ دِمَائِنَا , ثُمَّ يَقُولُ : مَا فَعَلْتُ وَلَا شَهِدْتُ , قَدْ أَمِنْتَ عِنْدَنَا يَا شَعْبِيُّ .

قَالَ : فَانْصَرَفْتُ , فَلَمَّا مَشَيْتُ قَلِيلًا قَالَ : هَلُمَّ يَا شَعْبِيُّ .

قَالَ : فَوَجَلَ لِذَلِكَ قَلْبِي , ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ : قَدْ أَمِنْتَ يَا شَعْبِيُّ , فَاطْمَأَنَّتْ نَفْسِي .

فَقَالَ : كَيْفَ وَجَدْتَ النَّاسَ بَعْدَنَا يَا شَعْبِيُّ ؟

قَالَ الشَّعْبِيُّ - وَكَانَ الْحَجَّاجُ لِي مُكْرِمًا - فَقُلْتُ : أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ , قَدِ اكْتَحَلْتُ بَعْدَكَ السَّهَرَ , وَاسْتَوْعَرْتُ السُّهُولَةَ , وَاسْتَوْخَمْتُ الْجَنَابَ , وَاسْتَحْلَسْتُ الْخَوْفَ , وَاسْتَحْلَيْتُ الْهَمَّ , وَفَقَدْتُ صَالِحَ الْإِخْوَانِ , وَلَمْ أَجِدْ مِنَ الْأَمِيرِ خَلَفًا .

قَالَ : انْصَرِفْ يَا شَعْبِيُّ .

فَانْصَرَفْتُ .


ثُمَّ سَارَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْكُوفَةِ فَدَخَلَهَا , فَجَعَلَ لَا يُبَايِعُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا قَالَ : أَتَشْهَدُ عَلَى نَفْسِكَ أَنَّكَ قَدْ كَفَرْتَ ؟ .

فَإِذَا قَالَ : نَعَمْ . بَايَعَهُ , وَإِنْ أَبَى قَتَلَهُ , فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا , مِمَّنْ أَبَى أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ .

فَأُتِيَ بِرَجُلٍ , فَقَالَ الْحَجَّاجُ : مَا أَظُنُّ هَذَا يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ ; لِصَلَاحِهِ وَدِينِهِ , وَأَرَادَ الْحَجَّاجُ مُخَادَعَتَهُ

فَقَالَ : أَخَادِعِي أَنْتَ عَنْ نَفْسِي ؟ , أَنَا أَكْفَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ , وَأَكْفَرُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَنَمْرَودَ .

فَضَحِكَ الْحَجَّاجُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ .

ثُمَّ شَرَعَ الْحَجَّاجُ فِي تَتَبُّعِ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ , فَقَتَلَهُمْ مَثْنَى وَفُرَادَى , حَتَّى قِيلَ : إِنَّهُ قَتَلَ مِنْهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَبْرًا مِائَةَ أَلْفٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا . قَالَهُ النَّضِرُ بْنُ شُمَيْلٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ . مِنْهُمْ : مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ , وَجَمَاعَاتٌ مِنَ السَّادَاتِ , حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ

 
وهذه ترجمة الحجاج بن يوسف الثقفي وذكر وفاته( البداية والنهاية لابن كثير )
================


هو الحجاج بن يوسف بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف، وهو قسي بن منبه بن بكر بن هوزان، أبو محمد الثقفي.

سمع ابن عباس، وروى عن أنس، وسمرة بن جندب، وعبد الملك بن مروان، وأبي بردة بن أبي موسى.

وروى عنه أنس بن مالك، وثابت البناني، وحميد الطويل، ومالك بن دينار، وجواد بن مجالد، وقتيبة بن مسلم، وسعيد بن أبي عروبة. قاله ابن عساكر، قال: وكانت له بدمشق دور منها: دار الرواية بقرب قصر ابن أبي الحديد.

وولاه عبد الملك الحجاز فقتل ابن الزبير، ثم عزله عنها وولاه العراق.

وقدم دمشق وافدا على عبد الملك، ثم روى من طريق المغيرة بن مسلم، سمعت أبي يقول: خطبنا الحجاج بن يوسف فذكر القبر، فما زال يقول: إنه بيت الوحدة، وبيت الغربة، حتى بكى وأبكى من حوله، ثم قال: سمعت أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان يقول: سمعت مروان يقول في خطبته: خطبنا عثمان بن عفان فقال في خطبته: «ما نظر رسول الله إلى قبر أو ذكره إلا بكى». وهذا الحديث له شاهد في سنن أبي داود وغيره.

وساق من طريق أحمد بن عبد الجبار: ثنا يسار، عن جعفر، عن مالك بن دينار، قال: دخلت يوما على الحجاج فقال لي: يا أبا يحيى، ألا أحدثك بحديث حسن عن رسول الله ! فقلت: بلى ! فقال: حدثني أبو بردة، عن أبي موسى. قال: قال رسول الله : «من كانت له إلى الله حاجة فليدع بها في دبر صلاة مفروضة». وهذا الحديث له شاهد عن فضالة بن عبيد، وغيره في السنن والمسانيد، والله أعلم.

قال الشافعي: سمعت من يذكر أن المغيرة بن شعبة دخل على امرأته وهي تتخلل - أي: تخلل أسنانها لتخرج ما بينها من أذى - وكان ذلك في أول النهار، فقال: والله لئن كنت باكرت الغذاء إنك لرعينةٌ دنيَّةٌ، وإن كان الذي تخللين منه شيء بقي في فيك من البارحة إنك لقذرةٌ، فطلقها فقالت: والله ما كان شيء مما ذكرت، ولكنني باكرت ما تباكره الحرة من السواك، فبقيت شظية في فمي منه فحاولتها لأخرجها. فقال المغيرة ليوسف أبي الحجاج: تزوجها فإنها لخليقة بأن تأتي برجل يسود، فتزوجها يوسف أبو الحجاج. قال الشافعي: فأخبرت أن أبا الحجاج لما بنى بها واقعها فنام فقيل له في النوم: ما أسرع ما ألقحت بالمبير.

قال ابن خلكان: واسم أمه الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي، وكان زوجها الحارث بن كلدة الثقفي طبيب العرب، وذكر عنه هذه الحكاية في السواك.

وذكر صاحب العقد أن الحجاج كان هو وأبوه يعلمان الغلمان بالطائف، ثم قدم دمشق فكان عند روح بن زنباع وزير عبد الملك، فشكا عبد الملك إلى روح أن الجيش لا ينزلون لنزوله ولا يرحلون لرحيله، فقال روح: عندي رجل توليه ذلك، فولى عبد الملك الحجاج أمر الجيش، فكان لا يتأخر أحد في النزول والرحيل، حتى اجتاز إلى فسطاط روح بن زنباع وهم يأكلون فضربهم وطوف بهم وأحرق الفسطاط، فشكا روح ذلك إلى عبد الملك، فقال للحجاج: لم صنعت هذا؟ فقال: لم أفعله إنما فعله أنت، فإن يدي يدك، وسوطي سوطك، وما ضرك إذا أعطيت روحا فسطاطين بدل فسطاطه، وبدل الغلام غلامين، ولا تكسرني في الذي وليتني؟ ففعل ذلك وتقدم الحجاج عنده.

قال: وبنى واسط في سنة أربع وثمانين، وفرغ منها في سنة ست وثمانين، وقيل: قبل ذلك.

قال: وفي أيامه نقّطت المصاحف.

وذكر في حكايته ما يدل أنه كان أولا يسمى: كليبا، ثم سمى: الحجاج.

وذكر أنه ولد ولا مخرج له حتى فتق له مخرج، وأنه لم يرتضع أياما حتى سقوه دم جدي ثم دم سالح، ولطّخ وجهه بدمه فارتضع، وكانت فيه شهامة وحب لسفك الدماء، لأنه أول ما ارتضع ذلك الدم الذي لطّخ به وجهه، ويقال: إن أمه هي المتمنية لنصر بن حجاج بن علاط، وقيل: إنها أم أبيه، والله أعلم.

وكانت فيه شهامة عظيمة، وفي سيفه رهق، وكان كثير قتل النفوس التي حرمها الله بأدنى شبهة، وكان يغضب غضب الملوك، وكان فيما يزعم يتشبه بزياد بن أبيه، وكان زياد يتشبه بعمر بن الخطاب فيما يزعم أيضا، ولا سواء ولا قريب.

وقد ذكر ابن عساكر في ترجمة سليم بن عنز التجيبي قاضي مصر، وكان من كبار التابعين، وكان ممن شهد خطبة عمر بن الخطاب بالجابية، وكان من الزهادة والعبادة على جانب عظيم، وكان يختم القرآن في كل ليلة ثلاث ختمات في الصلاة وغيرها.

والمقصود أن الحجاج كان مع أبيه بمصر في جامعها فاجتاز بهما سليم بن عنز هذا فنهض إليه أبو الحجاج فسلم عليه، وقال له: إني ذاهب إلى أمير المؤمنين، فهل من حاجة لك عنده؟ قال: نعم ! تسأله أن يعزلني عن القضاء. فقال: سبحان الله !! والله لا أعلم قاضيا اليوم خيرا منك. ثم رجع إلى ابنه الحجاج فقال له ابنه: يا أبت أتقوم إلى رجل من تجيب وأنت ثقفي؟ فقال له: يا بني، والله إني لأحسب أن الناس يرحمون بهذا وأمثاله. فقال: والله ما على أمير المؤمنين أضر من هذا وأمثاله، فقال: ولم يا بني؟ قال: لأن هذا وأمثاله يجتمع الناس إليهم، فيحدثونهم عن سيرة أبي بكر وعمر، فيحقر الناس سيرة أمير المؤمنين، ولا يرونها شيئا عند سيرتهما، فيخلعونه ويخرجون عليه ويبغضونه، ولا يرون طاعته، والله لو خلص لي من الأمر شيء لأضربن عنق هذا وأمثاله. فقال له أبوه: يا بني والله إني لأظن أن الله عزَّ و جلَّ خلقك شقيا. وهذا يدل على أن أباه كان ذا وجاهة عند الخليفة، وأنه كان ذا فراسة صحيحة، فإنه تفرس في ابنه ما آل إليه أمره بعد ذلك.

قالوا: وكان مولد الحجاج في سنة تسع وثلاثين، وقيل: في سنة أربعين، وقيل: في سنة إحدى وأربعين، ثم نشأ شابا لبيبا فصيحا بليغا حافظا للقرآن.

قال بعض السلف: كان الحجاج يقرأ القرآن كل ليلة.

وقال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح منه ومن الحسن البصري، وكان الحسن أفصح منه.

وقال الدارقطني: ذكر سليمان بن أبي منيح، عن صالح بن سليمان، قال: قال عقبة بن عمرو: ما رأيت عقول الناس إلا قريبا بعضها من بعض، إلا الحجاج وإياس بن معاوية، فإن عقولهما كانت ترجح على عقول الناس.

وتقدم أن عبد الملك لما قتل مصعب بن الزبير سنة ثلاث وسبعين بعث الحجاج إلى أخيه عبد الله بمكة فحاصره بها، وأقام للناس الحج عامئذ، ولم يتمكن ومن معه من الطواف بالبيت، ولا تمكن ابن الزبير ومن عنده من الوقوف، ولم يزل محاصره حتى ظفر به في جمادى سنة ثلاث وسبعين، ثم استنابه عبد الملك على مكة والمدينة والطائف واليمن، ثم نقله إلى العراق بعد موت أخيه بشر، فدخل الكوفة كما ذكرنا، وقال لهم وفعل بهم ما تقدم إيراده مفصلا، فأقام بين ظهرانيهم عشرين سنة كاملة.

وفتح فيها فتوحات كثيرة، هائلة منتشرة، حتى وصلت خيوله إلى بلاد الهند والسند، ففتح فيها جملة مدن وأقاليم، ووصلت خيوله أيضا إلى قريب من بلاد الصين، وجرت له فصول قد ذكرناها. ونحن نورد هنا أشياء أخر مما وقع له من الأمور والجراءة والإقدام، والتهاون في الأمور العظام، مما يمدح على مثله ومما يذم بقوله وفعله، مما ساقه الحافظ ابن عساكر وغيره:

فروى أبو بكر بن أبي خيثمة، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن كثير، ابن أخي إسماعيل بن جعفر المديني، ما معناه: أن الحجاج بن يوسف صلى مرة بجنب سعيد بن المسيب - وذلك قبل أن يلي شيئا - فجعل يرفع قبل الإمام ويقع قبله في السجود، فلما سلَّم أخذ سعيد بطرف ردائه - وكان له ذكر يقوله بعد الصلاة - فما زال الحجاج ينازعه رداءه حتى قضى سعيد ذكره، ثم أقبل عليه سعيد فقال له: يا سارق يا خائن، تصلي هذه الصلاة، لقد هممت أن أضرب بهذا النعل وجهك. فلم يرد عليه ثم مضى الحجاج إلى الحج، ثم رجع فعاد إلى الشام، ثم جاء نائبا على الحجاز.

فلما قتل ابن الزبير كرَّ راجعا إلى المدينة نائبا عليها، فلما دخل المسجد إذا مجلس سعيد بن المسيب، فقصده الحجاج فخشي الناس على سعيد منه، فجاء حتى جلس بين يديه فقال له: أنت صاحب الكلمات؟ فضرب سعيد صدره بيده وقال: نعم ! قال: فجزاك الله من معلم ومؤدب خيرا ما صليت بعدك صلاة إلا وأنا أذكر قولك. ثم قام ومضى.

وروى الرياشي، عن الأصمعي وأبي زيد، عن معاذ بن العلاء، - أخي أبي عمرو بن العلاء - قال: لما قتل الحجاج ابن الزبير ارتجت مكة بالبكاء، فأمر الناس فجمعوا في المسجد ثم صعد المنبر فقال بعد حمد الله والثناء عليه: يا أهل مكة ! بلغني إكباركم قتل ابن الزبير، ألا وإن ابن الزبير كان من خيار هذه الأمة، حتى رغب في الخلافة ونازع فيها أهلها، فنزع طاعة الله واستكن بحرم الله، ولو كان شيء مانع العصاة لمنعت آدم حرمة الله، إن الله خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، واسجد له ملائكته، وأباح له كرامته، وأسكنه جنته، فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئته، وآدم أكرم على الله من ابن الزبير والجنة أعظم حرمة من الكعبة، اذكروا الله يذكركم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف، ثنا عون، عن أبي الصديق الناجي: أن الحجاج دخل على أسماء بنت أبي بكر بعد ما قتل ابنها عبد الله فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وإن الله أذاقه من عذاب أليم، وفعل. فقالت: كذبت، كان برا بوالديه، صواما قواما، والله لقد أخبرنا رسول الله : «أنه يخرج من ثقيف كذابان، الآخر منهما شرٌ من الأول، وهو مبير».

ورواه أبو يعلى، عن وهب بن بقية، عن خالد، عن عون، عن أبي الصديق. قال: بلغني أن الحجاج دخل على أسماء فذكر مثله.

وقال أبو يعلى: ثنا زهير، ثنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن قيس بن الأحنف، عن أسماء بنت أبي بكر. قالت: سمعت رسول الله نهى عن المثلة. وسمعته يقول: «يخرج من ثقيف رجلان كذاب ومبير». قالت: فقلت للحجاج: أما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت هو يا حجاج.

وقال عبيد بن حميد: أنبأ يزيد بن هارون، أنبأ العوام بن حوشب، حدثني من سمع أسماء بنت أبي بكر الصديق، تقول للحجاج حين دخل عليها يعزيها في ابنها: سمعت رسول الله ، يقول: «يخرج من ثقيف رجلان مبير وكذاب». فأما الكذاب فابن أبي عبيد - تعني المختار - وأما المبير فأنت.

وتقدم في صحيح مسلم من وجه آخر أوردناه عند مقتل ابنها عبد الله، وقد رواه غير أسماء عن النبي فقال أبو يعلى: ثنا أحمد بن عمر الوكيعي، ثنا وكيع، حدثتنا أم عراب، عن امرأة يقال لها: عقيلة، عن سلامة بنت الحر، قالت: قال رسول الله : «في ثقيف كذاب ومبير». تفرد به أبو يعلى.

وقد روى الإمام أحمد: عن وكيع، عن أم عراب، - واسمها طلحة - عن عقيلة، عن سلامة، حديثا آخر في الصلاة، وأخرجه أبو داود وابن ماجه.

وروى من حديث ابن عمر، فقال أبو يعلى: ثنا أمية بن بسطام، ثنا يزيد بن ربيع، ثنا إسرائيل، ثنا عبد الله بن عصمة، قال: سمعت ابن عمر: «أنبأنا رسول الله أن في ثقيف مبيرا وكذابا» وأخرجه الترمذي من حديث شريك، عن عبد الله بن عاصم، ويقال عصمة. وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك.

وقال الشافعي: ثنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن نافع: أن ابن عمر اعتزل ليالي قتال ابن الزبير والحجاج بمنى، فكان لا يصلي مع الحجاج.

وقال الثوري: عن محمد بن المنكدر، عن جابر: أنه دخل على الحجاج فلم يسلم عليه، ولم يكن يصلي وراءه.

وقال إسحاق بن راهويه: أنبأ جرير، عن القعقاع بن الصلت، قال: خطب الحجاج فقال: إن ابن الزبير غيَّر كتاب الله، فقال ابن عمر: ما سلَّطه الله على ذلك، ولا أنت معه، ولو شئت أقول: كذبت لفعلت.

وروي عن شهر بن حوشب وغيره: أن الحجاج أطال الخطبة فجعل ابن عمر يقول: الصلاة الصلاة مرارا، ثم قام فأقام الصلاة فقام الناس، فصلى الحجاج بالناس، فلما انصرف قال لابن عمر: ما حملك على ذلك؟ فقال: إنما نجيء للصلاة فصلِّ الصلاة لوقتها، ثم تفتق ما شئت بعد من تفتقه.

وقال الأصمعي: سمعت عمي يقول: بلغني أن الحجاج لما فرغ من ابن الزبير وقدم المدينة لقي شيخا خارجا من المدينة، فسأله عن حال أهل المدينة، فقال: بشرِّ حال، قتل ابن حواري رسول الله ، فقال الحجاج: ومن قتله؟ فقال: الفاجر اللعين الحجاج عليه لعائن الله وتهلكته، من قليل المراقبة لله، فغضب الحجاج غضبا شديدا، ثم قال: أيها الشيخ ! أتعرف الحجاج إذا رأيته؟ قال: نعم ! فلا عرفه الله خيرا ولا وقاه ضرا، فكشف الحجاج عن لثامه وقال: ستعلم أيها الشيخ الآن إذا سال دمك الساعة. فلما تحقق الشيخ الجد قال: والله إن هذا لهو العجب يا حجاج، لو كنت تعرفني ما قلت هذه المقالة، أنا العباس بن أبي داود، أصرع كل يوم خمس مرات، فقال الحجاج: انطلق فلا شفى الله الأبعد من جنونه ولا عافاه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، ثنا حماد بن سلمة، عن ابن أبي رافع، عن عبد الله بن جعفر، قال خالد بن يزيد بن معاوية لعبد الملك: أتمكنه من ذلك؟ فقال: وما بأس من ذلك. قال: أشد الناس والله، قال: كيف؟ قال: والله يا أمير المؤمنين لقد ذهب ما في صدري على آل الزبير منذ تزوجت رملة بنت الزبير، قال: وكأنه كان نائما فأيقظه، فكتب إلى الحجاج يعزم عليه بطلاقها فطلقها.

وقال سعيد بن أبي عروبة: حج الحجاج مرة فمر بين مكة والمدينة، فأتي بغذائه، فقال لحاجبه:

انظر من يأكل معي، فذهب فإذا أعرابي نائم فضربه برجله، وقال: أجب الأمير، فقام فلما دخل على الحجاج قال له: اغسل يديك ثم تغدَّ معي، فقال: إنه دعاني من هو خير منك، قال: ومن؟ قال: الله دعاني إلى الصوم فأجبته، قال: في هذا الحر الشديد؟ قال: نعم، صمت ليوم هو أشد حرا منه، قال: فأفطر وصم غدا، قال: إن ضمنت لي البقاء لغد. قال: ليس ذلك لي، قال: فكيف تسألني عاجلا بآجل لا تقدر عليه؟ قال: إن طعامنا طعام طيب، قال: لم تطيبه أنت ولا الطباخ، إنما طيبته العافية.
 

فصل فيما روي عنه من الكلمات النافعة والجراءة البالغة للحجاج ( البداية والنهاية لابن كثير )
========================


قال أبو داود: ثنا محمد بن العلاء، ثنا أبو بكر، عن عاصم، قال: سمعت الحجاج وهو على المنبر يقول: اتقوا الله ما استطعتم، ليس فيها مثنوية، واسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثنوية لأمير المؤمنين عبد الملك، والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب المسجد فخرجوا من باب آخر لحلت لي دماؤهم وأموالهم، والله لو أخذت ربيعة بمضر لكان ذلك لي من الله حلالا، وما عذيري من عبد هذيل يزعم أن قرآنه من عند الله، والله ما هي الأرجز من رجز الأعراب ما أنزلها الله على نبيه محمد ، وعذيري من هذه الحمراء، يزعم أحدهم يرمي بالحجر فيقول لي: إن تقع الحجر حدث أمر، فوالله لأدعنهم كالأمس الدابر.

قال: فذكرته للأعمش فقال: وأنا والله سمعته منه.

وروراه أبو بكر بن أبي خيثمة، عن محمد بن يزيد، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود والأعمش، أنهما سمعا الحجاج - قبحه الله - يقول ذلك، وفيه: والله لو أمرتكم أن تخرجوا من هذا الباب فخرجتم من هذا الباب لحلت لي دماؤكم، ولا أجد أحدا يقرأ على قراءة ابن أم عبد إلا ضربت عنقه، ولأحكنها من المصحف ولو بضلع خنزير.

وروراه غير واحد عن أبي بكر بن عياش بنحوه، وفي بعض الروايات: والله لو أدركت عبد هذيل لأضربن عنقه.

وهذا من جراءة الحجاج قبحه الله، وإقدامه على الكلام السيئ، والدماء الحرام.

وإنما نقم على قراءة ابن مسعود رضي الله عنه لكونه خالف القراءة على المصحف الإمام الذي جمع الناس عليه عثمان، والظاهر أن ابن مسعود رجع إلى قول عثمان وموافقيه، والله أعلم.

وقال علي بن عبد الله بن مبشر، عن عباس الدوري، عن مسلم بن إبراهيم، ثنا الصلت بن دينار، سمعت الحجاج على منبر واسط يقول: عبد الله بن مسعود رأس المنافقين لو أدركته لأسقيت الأرض من دمه.

قال وسمعته على منبر واسط وتلا هذه الآية: { وَهَبْ لِي مُلْكا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } [ص: 35] قال: والله إن كان سليمان لحسودا.

وهذه جراءة عظيمة تفضي به إلى الكفر قبحه الله وأخزاه وأبعده وأقصاه.

قال أبو نعيم، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني جئتك من عند رجل يملي المصاحف عن ظهر قلب، ففزع عمر وغضب وقال: ويحك، انظر ما تقول قال ما جئتك إلا بالحق، قال: من هو؟ قال: عبد الله بن مسعود. قال: ما أعلم أحدا أحق بذلك منه، وسأحدثك عن ذلك. إنا سهرنا ليلة في بيت عند أبي بكر في بعض ما يكون من حاجة النبي ثم خرجنا ورسول الله يمشي بيني وبين أبي بكر، فلما انتهينا إلى المسجد إذا رجل يقرأ فقام النبي يستمع إليه، فقلت: يا رسول الله أعتمت فغمزني بيده - يعني اسكت - قال: فقرأ وركع وسجد وجلس يدعو ويستغفر، فقال النبي : سل تعطه ثم قال: من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد فعلمت أنا وصاحبي أنه عبد الله بن مسعود، فلما أصبحت غدوت إليه لأبشره فقال: سبقك بها أبو بكر وما سابقته إلى خير قط إلا سبقني إليه» وهذا الحديث قد روي من طرق:

فرواه حبيب بن حسان، عن زيد بن وهب، عن عمر مثله، ورواه شعبة وزهير وخديج، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله.

ورواه عاصم، عن عبد الله.

ورواه الثوري وزائدة، عن الأعمش نحوه.

وقال أبو داود: حدثنا عمر بن ثابت، عن أبي إسحاق، عن حمير بن مالك، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: «أخذت من في رسول الله سبعين سورة، وإن زبد بن ثابت لصبي مع الصبيان، فأنا لا أدع ما أخذت من في رسول الله .

وقد رواه الثوري، وإسرافيل، عن أبي إسحاق به، وفي رواية ذكرها الطبراني، عنه، قال: «لقد تلقيت من في رسول الله سبعين سورة أحكمتها قبل أن يسلم زيد بن ثابت، وله ذؤابة يلعب مع الغلمان».

وقد روى أبو داود، عنه وذكر قصة رعيه الغنم لعقبة بن أبي معيط، وأنه قال: قال لي رسول الله : «إنك غلام معلم، قال: فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد».

ورواه أبو أيوب الإفريقي وأبو عوانة، عن عاصم، عن زر، عنه، نحوه. وقال له النبي : «إذ نك أن ترفع الحجاب وأن تسمع سوادي حتى أنهاك». وقد روي هذا عنه من طرق.

وروى الطبراني، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، أن عبد الله كان صاحب الوساد والسواد والسواك والنعلين.

وروى غيره، عن علقمة، قال: قدمت الشام فجلست إلى أبي الدرداء فقال لي: ممن أنت؟ فقلت: من أهل الكوفة، فقال: أليس فيكم صاحب الوساد والسواك؟

وقال الحارث بن أبي أسامة: حدثنا عبد العزيز بن أبان، حدثنا قطر بن خليفة، حدثنا أبو وائل، قال: سمعت حذيفة يقول وابن مسعود قائم: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد من أقربهم وسيلة يوم القيامة.

وقد روي هذا عن حذيفة، من طرق فرواه شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي وائل، عن حذيفة، ورواه عن أبي وائل، فاضل الأحدب وجامع بن أبي راشد، وعبيدة وأبو سنان الشيباني، وحكيم بن جبير، ورواه عبد الرحمن بن يزيد، عن حذيفة.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت عبد الرحمن بن زيد يقول: قلنا لحذيفة أخبرنا برجل قريب الهدى والسمت من رسول الله حتى نلزمه، فقال: ما أعلم أحدا أقرب هديا وسمتا من رسول الله حتى يواريه جدار بيته من ابن أم عبد، ولقد علم المحفوظون من أصحاب النبي أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله وسيلة.

قلت: فهذا حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله ، وهذا قوله في عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. فكذب الحجاج وفجر، ولقم النار والحجر فيما يقوله فيه، وفي رميه له بالنفاق، وفي قوله عن قراءته: إنها شعر من شعر هذيل، وإنه لا بد أن يحكها من المصحف ولو بضلع خنزير، وأنه لو أدركه لضرب عنقه، فحصل على إثم ذلك كله بنيته الخبيثة.

وقال عفان: حدثنا حماد، حدثنا عاصم، عن زر، عن عبد الله، قال: كنت أجتني لرسول الله سواكا من أراك، فكانت الريح تكفوه، وكان في ساقه دقة، فضحك القوم، فقال النبي : «ما يضحككم؟» قالوا: من دقة ساقيه، فقال النبي : «والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد».

ورواه جرير وعلي بن عاصم، عن مغيرة، عن أم موسى، عن علي بن أبي طالب.

وروى سلمة بن سهل، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله : «تمسكوا بعهد عبد الله بن أم مسعود».

ورواه الترمذي والطبراني.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق. قال: سمعت أبا الأحوص قال: شهدت أبا موسى وأبا مسعود حين توفي ابن مسعود وأحدهما يقول لصاحبه: أتراه ترك بعده مثله. قال إن قلت ذاك إنه كان ليؤذن له إذا حجبنا، ويشهد إذا غبنا.

وقال الأعمش: يعني عبد الله بن مسعود.

وقال أبو معاوية: حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، قال: أقبل عبد الله بن مسعود ذات يوم وعمر جالس فقال: كيف ملء فقها.

وقال عمر بن حفص: حدثنا عاصم بن علي، حدثنا المسعودي، عن أبي حصين، عن أبي عطية، أن أبا موسى الأشعري قال: لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهرنا من أصحاب محمد - يعني ابن مسعود -.

وروى جرير، عن الأعمش، عن عمرو بن عروة، عن أبي البختري، قال: قالوا لعلي: حدثنا عن أصحاب محمد ، قال: عن أيهم؟ قالوا: حدثنا عن ابن مسعود. قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى بذلك علما.

وفي رواية عن علي، قال: علم القرآن ثم وقف عنده وكفى به. فهداتنا و الصحابة العالمون به، العارفون بما كان عليه، فهم أولى بالاتباع وأصدق أقوالا من أصحاب الأهواء الحائدين عن الحق، بل أقوال الحجاج وغيره من أهل الأهواء: هذيانات وكذب وافتراء، وبعضها كفر وزندقة، فإن الحجاج كان عثمانيا أمويا، يميل إليهم ميلا عظيما، ويرى أن خلافهم كفر، يستحل بذلك الدماء، ولا تأخذه في ذلك لومة لائم.

ومن الطامات أيضا ما رواه أبو داود: ثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني، ثنا جرير. وحدثنا زهير بن حرب، ثنا جرير، عن المغيرة، عن بُزَيع بن خالد الضبي قال: سمعت الحجاج يخطب فقال في خطبته: رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه أم خليفته في أهله؟ فقلت في نفسي: لله علي أن لا أصلي خلفك صلاة أبدا، وإن وجدت قوما يجاهدونك لأجاهدنك معهم. زاد إسحاق فقاتل في الجماجم حتى قتل. فإن صح هذا عنه فظاهره كفر إن أراد تفضيل منصب الخلافة على الرسالة، أو أراد أن الخليفة من بني أمية أفضل من الرسول.

وقال الأصمعي: ثنا أبو عاصم النبيل، ثنا أبو حفص الثقفي، قال: خطب الحجاج يوما فأقبل عن يمينه فقال: ألا إن الحجاج كافر، ثم أطرق فقال: إن الحجاج كافر، ثم أطرق فأقبل عن يساره فقال: ألا إن الحجاج كافر، فعل ذلك مرارا ثم قال: كافر يا أهل العراق باللات والعزى.

وقال حنبل بن إسحاق: ثنا هارون بن معروف، ثنا ضمرة، ثنا ابن شوذب، عن مالك بن دينار، قال: بينما الحجاج يخطبنا يوما إذ قال: الحجاج كافر، قلنا ماله أي شيء؟ يريد قال: الحجاج كافر بيوم الأربعاء والبغلة الشهباء.

وقال الأصمعي: قال عبد الملك يوما للحجاج: ما من أحد إلا وهو يعرف عيب نفسه، فصف عيب نفسك. فقال: اعفني يا أمير المؤمنين، فأبى، فقال: أنا لجوج حقود حسود، فقال عبد الملك: ما في الشيطان شر مما ذكرت، وفي رواية أنه قال: إذا بينك وبين إبليس نسب.

 
فصل فيما روي عنه من الكلمات النافعة والجراءة البالغة للحجاج ( البداية والنهاية لابن كثير )
========================


وبالجملة فقد كان الحجاج نقمة على أهل العراق بما سلف لهم من الذنوب والخروج على الأئمة، وخذلانهم لهم، وعصيانهم، ومخالفتهم، والافتيات عليهم، قال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن شريح بن عبيد، عمن حدثه، قال: جاء رجل إلى عمر ابن الخطاب فأخبره أن أهل العراق حصبوا أميرهم فخرج غضبان، فصلى لنا صلاة فسها فيها حتى جعل الناس يقولون: سبحان الله سبحان الله، فلما سلم أقبل على الناس فقال: من ههنا من أهل الشام؟ فقام رجل ثم قام آخر ثم قمت أنا ثالثا أو رابعا، فقال: يا أهل الشام استعدوا لأهل العراق، فإن الشيطان قد باض فيهم وفرخ، اللهم إنهم قد لبسوا عليهم فالبس عليهم وعجل عليهم بالغلام الثقفي، يحكم فيهم بحكم الجاهلية، لا يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم.

وقد رويناه في كتاب مسند عمر بن الخطاب، من طريق أبي عذبة الحمصي، عن عمر مثله، وقال عبد الرزاق: ثنا جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار، عن الحسن قال علي بن أبي طالب: اللهم كما ائتمنتهم فخانوني، ونصحت لهم فغشوني، فسلط عليهم فتى ثقيف الذيال الميال، يأكل خضرتها، ويلبس فروتها، ويحكم فيها بحكم الجاهلية.

قال يقول الحسن: وما خلق الحجاج يومئذ.

ورواه معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أيوب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن علي، أنه قال: الشاب الذيال أمير المصرين يلبس فروتها ويأكل خضرتها، ويقتل أشراف أهلها، يشتد منه الفرق، ويكثر منه الأرق، ويسلطه الله على شيعته.

وقال الحافظ البيهقي في دلائل النبوة: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، ثنا سعيد بن مسعود، ثنا يزيد بن هارون، أنبأ العوام بن حوشب، حدثني حبيب بن أبي ثابت، قال: قال علي لرجل: لامت حتى تدرك فتى ثقيف، قال: وما فتى ثقيف؟ قال: ليقالن له يوم القيامة اكفنا زاوية من زوايا جهنم، رجل يملك عشرين سنة أو بضعا وعشرين سنة، لا يدع لله معصية إلا ارتكبها، حتى لم يبق إلا معصية واحدة، وكان بينه وبينها باب مغلق لكسره حتى يرتكبها، يقتل بمن أطاعه من عصاه.

وقال الطبراني: حدثنا القاسم بن زكريا، ثنا إسماعيل بن موسى السدوسي، ثنا علي بن مسهر، عن الأجلح، عن الشعبي، عن أم حكيم بنت عمر بن سنان الجدلية قالت: استأذن الأشعث بن قيس على علي فرده قنبر فأدمى أنفه فخرج علي فقال: مالك وله يا أشعث، أما والله لو بعبد ثقيف تحرشت لا قشعرت شعيرات أستك، قيل له: يا أمير المؤمنين ومن عبد ثقيف؟ قال: غلام يليهم لا يبقى أهل بيت من العرب إلا ألبسهم ذلا، قيل: كم يملك؟ قال: عشرين إن بلغ.

وقال البيهقي، أنبأنا الحاكم، أنبأ الحسن بن الحسن بن أيوب، ثنا أبو حاتم الرازي، ثنا عبد الله بن يوسف التنيسي، ثنا ابن يحيى الغاني، قال: قال عمر بن عبد العزيز: لو تخابثت الأمم فجاءت كل أمة بخبيثها، وجئنا بالحجاج لغلبناهم.

وقال أبو بكر بن عياش: عن عاصم بن أبي النجود، أنه قال: ما بقيت لله عز وجل حرمه إلا وقد ارتكبها الحجاج.

وقد تقدم الحديث: «إن في ثقيف كذابا ومبيرا» وكان المختار هو الكذاب المذكور في هذا الحديث، وقد كان يظهر الرفض أولا ويبطن الكفر المحض، وأما المبير فهو الحجاج بن يوسف هذا، وقد كان ناصبيا يبغض عليا وشيعته في هوى آل مروان بني أمية، وكان جبارا عنيدا، مقداما على سفك الدماء بأدنى شبهة.

وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة ظاهرها الكفر كما قدمنا، فإن كان قد تاب منها وأقلع عنها، وإلا فهو باق في عهدتها، ولكن قد يخشى أنها رويت عنه بنوع من زيادة عليه، فإن الشيعة كانوا يبغضونه جدا لوجوه، وربما حرفوا عليه بعض الكلم، وزادوا فيما يحكونه عنه بشاعات وشناعات.

وقد روينا عنه أنه كان يتدين بترك المسكر، وكان يكثر تلاوة القرآن، ويتجنب المحارم ولم يشتهر عنه شيء من التلطخ بالفروج، وإن كان متسرعا في سفك الدماء، فالله تعالى أعلم بالصواب وحقائق الأمور وساترها، وخفيات الصدور وضمائرها.

قلت: الحجاج أعظم ما نقم عليه وصح من أفعاله سفك الدماء، وكفى به عقوبة عند الله عز وجل، وقد كان حريصا على الجهاد وفتح البلاد، وكان فيه سماحة بإعطاء المال لأهل القرآن، فكان يعطي على القرآن كثيرا، ولما مات لم يترك فيما قيل إلا ثلثمائة درهم، والله أعلم.

وقال المعافى بن زكريا الجريري المعروف بابن طرار البغدادي: ثنا محمد بن القاسم الأنباري، ثنا أبي، ثنا أحمد بن عبيد، ثنا هشام أبو محمد بن السائب الكلبي، ثنا عوانة بن الحكم الكلبي قال: دخل أنس بن مالك على الحجاج بن يوسف فلما وقف بين يديه قال له: إيه إيه يا أنيس يوم لك مع علي، ويوم لك مع ابن الزبير، ويوم لك مع ابن الأشعث، والله لأستأصلنك كما تستأصل الشاة، ولأدمغنك كما تدمغ الصمغة. فقال أنس: إياي يعني الأمير أصلحه الله؟ قال: إياك أعني صك الله سمعك.

قال أنس: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لولا الصبية الصغار ما باليت أي قتلة قتلت، ولا أي ميتة مت، ثم خرج من عند الحجاج فكتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره بما قال له الحجاج، فلما قرأ عبد الملك كتاب أنس استشاط غضبا، وشفق عجبا، وتعاظم ذلك من الحجاج، وكان كتاب أنس إلى عبد الملك:

بسم الله الرحمن الرحيم إلى عبد الملك بن مرروان أمير المؤمنين من أنس بن مالك، أما بعد: فإن الحجاج قال لي هُجرا، وأسمعني نكرا، ولم أكن لذلك أهلا، فخذلي على يديه، فإني أمت بخدمتي رسول الله وصحبتي إياه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

فبعث عبد الملك إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر - وكان مصادقا للحجاج - فقال له: دونك كتابي هذين فخذهما واركب البريد إلى العراق، وابدأ بأنس بن مالك صاحب رسول الله فارفع كتابي إليه وأبلغه مني السلام، وقل له: يا أبا حمزة قد كتبت إلى الحجاج الملعون كتابا إذا قرأه كان أطوع لك من أمتك، وكان كتاب عبد الملك إلى أنس بن مالك:

بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الملك بن مروان إلى أنس بن مالك خادم رسول الله ، أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت من شكايتك الحجاج، وما سلطته عليك ولا أمرته بالإساءة إليك، فإن عاد لمثلها اكتب إلى بذلك أنزل به عقوبتي، وتحسن لك معونتي، والسلام.

فلما قرأ أنس كتاب أمير المؤمنين وأخبر برسالته قال: جزى الله أمير المؤمنين عني خيرا، وعافاه وكفاه وكافأه بالجنة، فهذا كان ظني به والرجاء منه. فقال إسماعيل بن عبيد الله لأنس: يا أبا حمزة إن الحجاج عامل أمير المؤمنين، وليس بك عنه غنى، ولا بأهل بيتك، ولو جعل لك في جامعة ثم دفع إليك، فقاربه وداره تعش معه بخير وسلام. فقال أنس: أفعل إن شاء الله. ثم خرج إسماعيل من عند أنس فدخل على الحجاج، فقال الحجاج: مرحبا برجل أحبه وكنت أحب لقاه، فقال إسماعيل: أنا والله كنت أحب لقاءك في غير ما أتيتك به، فتغير لون الحجاج وخاف وقال: ما أتيتني به؟ قال: فارقت أمير المؤمنين وهو أشد الناس غضبا عليك، ومنك بعدا، قال: فاستوى الحجاج جالسا مرعوبا، فرمى إليه إسماعيل بالطومار فجعل الحجاج ينظر فيه مرة ويعرق، وينظر إلى إسماعيل أخرى، فلما فضَّه قال: قم بنا إلى أبي حمزة نعتذر إليه ونترضّاه، فقال له إسماعيل: لا تعجل، فقال: كيف لا أعجل وقد أتيتني بآبدة؟ وكان في الطومار:

بسم الله الرحمن الرحيم، من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف، أما بعد فإنك عبد طمت بك الأمور، فسموت فيها وعدوت طورك، وجاوزت قدرك، وركبت داهية إدَّا، وأردت أن تبدوا لي فإن سوغتكها مضيت قدما، وإن لم أسوغها رجعت القهقرى، فلعنك الله من عبد أخفش العينين، منقوص الجاعرتين. أنسيت مكاسب آبائك بالطائف، وحفرهم الآبار، ونقلهم الصخور على ظهورهم في المناهل، يا ابن المستفرية بعجم الزبيب، والله لأغمرنك غمر الليث الثعلب، والصقر الأرنب. وثبت على رجل من أصحاب رسول الله يبن أظهرنا، فلم تقبل له إحسانه، ولم تتجاوز له عن إساءته، جرأة منك على الرب عز وجل، واستخفافا منك بالعهد، والله لو أن اليهود والنصارى رأت رجلا خدم عزير بن عزرى، وعيسى بن مريم، لعظمته وشرفته وأكرمته وأحبته، بل لو رأوا من خدم حمار العزير أو خدم حواري المسيح لعظموه وأكرموه، فكيف وهذا أنس بن مالك خادم رسول الله ثماني سنين، يطلعه على سره، ويشاوره في أمره، ثم هو مع هذا بقية من بقايا أصحابه، فإذا قرأت كتابي هذا فكن أطوع له من خفه ونعله، وإلا أتاك مني سهم بكل حتف قاض، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون.

وقد تكلم ابن طرار على ما وقع في هذا الكتاب من الغريب، وكذلك ابن قتيبة وغيرهما من أئمة اللغة، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الزبير - يعني ابن عدي - قال: أتينا أنس بن مالك نشكو إليه ما نلقى من الحجاج، فقال: اصبروا فإنه لا يأتي عليكم عام أو زمان أو يوم إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم عز وجل، سمعته من نبيكم .

وهذا رواه البخاري عن محمد بن يوسف، عن سفيان وهو الثوري، عن الزبير بن عدي، عن أنس قال: لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه. الحديث.

قلت: ومن الناس من يروي هذا الحديث بالمعنى فيقول: كل عام ترذلون. وهذا اللفظ لا أصل له، وإنما هو مأخوذ من معنى هذا الحديث، والله أعلم.

قلت: قد مر بي مرة من كلام عائشة مرفوعا وموقوفا: كل يوم ترذلون.

ورأيت للإمام أحمد كلاما قال فيه: وروي في الحديث كل يوم ترذلون نسما خبيثا.

فيحتمل هذا أنه وقع للإمام أحمد مرفوعا، ومثل أحمد لا يقول هذا إلا عن أصل.

وقد روي عن الحسن مثل ذلك، والله أعلم.

فدل على أن له أصلا إما مرفوعا وإما من كلام السلف، لم يزل يتناوله الناس قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، حتى وصل إلى هذه الأزمان، وهو موجود في كل يوم، بل في كل ساعة تفوح رائحته، ولا سيما من بعد فتنة تمرلناك، وإلى الآن نجد الرذالة في كل شيء، وهذا ظاهر لمن تأمله، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقد قال سفيان الثوري: عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: يأتي على الناس زمان يصلّون فيه على الحجاج.

وقال أبو نعيم: عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر. قال: قال الشعبي: والله لئن بقيتم لتمنون الحجاج.

وقال الأصمعي: قيل للحسن: إنك تقول: الآخر شر من الأول، وهذا عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج. فقال الحسن: لا بد للناس من تنفيسات.

وقال ميمون بن مهران: بعث الحجاج إلى الحسن وقد هم به، فلما قام بين يديه قال: يا حجاج كم بينك وبين آدم من أب؟ قال: كثير، قال: فأين هم؟ قال: ماتوا. قال: فنكس الحجاج رأسه وخرج الحسن.

وقال أيوب السختياني: إن الحجاج أراد قتل الحسن مرارا فعصمه الله منه، وقد ذكر له معه مناظرات، على أن الحسن لم يكن ممن يرى الخروج عليه، وكان ينهى أصحاب ابن الأشعث عن ذلك، وإنما خرج معهم مكرها كما قدمنا، وكان الحسن يقول: إنما هو نقمة فلا نقابل نقمة الله بالسيف، وعليكم بالصبر والسكينة والتضرع.

وقال ابن دريد: عن الحسن بن الحضر، عن ابن عائشة. قال: أتى الوليد بن عبد الملك رجل من الخوارج، فقيل له: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى خيرا، قال: فعثمان؟ فأثنى خيرا، قيل له: فما تقول في علي؟ فأثنى خيرا، فذكر له الخلفاء واحدا بعد واحد، فيثني على كل بما يناسبه، حتى قيل له: فما تقول في عبد الملك بن مروان؟ فقال: الآن جاءت المسألة، ما أقول في رجل الحجاج خطيئة من بعض خطاياه؟

وقال الأصمعي: عن علي بن مسلم الباهلي، قال: أتي الحجاج بامرأة من الخوارج فجعل يكلمها وهي لا تنظر إليه ولا ترد عليه كلاما، فقال لها بعض الشرط: يكلمك الأمير وأنت معرضة عنه؟ فقالت: إني لأستحي من الله أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه، فأمر بها فقتلت.

وقد ذكرنا في سنة أربع وتسعين كيفية مقتل الحجاج لسعيد بن جبير، وما دار بينهما من الكلام والمراجعة.

وقد قال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا أبو ظفر، ثنا جعفر بن سليمان، عن بسطام بن مسلم، عن قتادة، قال: قيل لسعيد بن جبير: خرجت على الحجاج؟ قال: إني والله ما خرجت عليه حتى كفر.

ويقال: إنه لم يقتل بعده إلا رجلا واحدا اسمه ماهان، وكان قد قتل قبله خلقا كثيرا، أكثرهم ممن خرج مع ابن الأشعث.

وقال أبو عيسى الترمذي: ثنا أبو داود سليمان بن مسلم البلخي، ثنا النضر بن شميل، عن هشام بن حسان، قال: أحصوا ما قتل الحجاج صبرا فبلغ مائة ألف وعشرين ألفا.

قال الأصمعي: ثنا أبو عاصم، عن عباد بن كثير، عن قحدم، قال: أطلق سليمان بن عبد الملك في غداة واحدة أحدا وثمانين ألف أسير كانوا في سجن الحجاج، وقيل: إنه لبث في سجنه ثمانون ألفا، منهم ثلاثون ألف امرأة، وعرضت السجون بعد الحجاج فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفا، لم يجب على أحد منهم قطع ولا صلب، وكان فيمن حبس أعرابي وجد يبول في أصل ربض مدينة واسط، وكان فيمن أطلق فأنشأ يقول:

إذا نحن جاوزنا مدينة واسط * خرينا وصلينا بغير حساب

وقد كان الحجاج مع هذا العنف الشديد لا يستخرج من خراج العراق كبير أمر.

قال ابن أبي الدنيا وإبراهيم الحربي: ثنا سليمان بن أبي سنح، ثنا صالح بن سليمان، قال: قال عمر بن عبد العزيز: لو تخابثت الأمم فجاءت كل أمة بخبيثها، وجئنا بالحجاج لغلبناهم، وما كان الحجاج يصلح لدنيا ولا لآخرة، لقد ولي العراق وهو أوفر ما يكون في العمارة، فأخسَّ به إلى أن صيره إلى أربعين ألف ألف، ولقد أدى إلى عمالي في عامي هذا ثمانين ألف ألف، وإن بقيت إلى قابل رجوت أن يؤدي إلي ما أدى إلى عمر بن الخطاب مائة ألف ألف وعشرة آلاف ألف.

وقال أبو بكر بن المقري: ثنا أبو عروبة، ثنا عمرو بن عثمان، ثنا أبي، سمعت جدي، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة: بلغني أنك تستن بسنن الحجاج، فلا تستن بسننه، فإنه كان يصلي الصلاة لغير وقتها، ويأخذ الزكاة من غير حقها، وكان لما سوى ذلك أضيع.

وقال يعقوب بن سفيان: ثنا سعيد بن أسد، ثنا ضمرة، عن الريان بن مسلم. قال: بعث عمر بن عبد العزيز بآل بيت أبي عقيل - أهل بيت الحجاج - إلى صاحب اليمن وكتب إليه: أما بعد فإني قد بعثت بآل أبي عقيل وهم شر بيت في العمل، ففرقهم في العمل على قدر هوانهم على الله وعلينا، وعليك السلام. وإنما نفاهم.

وقال الأوزاعي: سمعت القاسم بن مخيمرة، يقول: كان الحجاج ينقض عرى الإسلام، وذكر حكاية.

وقال أبو بكر بن عياش: عن عاصم: لم يبق لله حرمة إلا ارتكبها الحجاج بن يوسف.

وقال يحيى بن عيسى الرملي: عن الأعمش: اختلفوا في الحجاج فسألوا مجاهدا فقال: تسألون عن الشيخ الكافر.

وروى ابن عساكر، عن الشعبي، أنه قال: الحجاج مؤمن بالجبت والطاغوت، كافر بالله العظيم، كذا قال، والله أعلم.

وقال الثوري: عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، قال: عجبا لإخواننا من أهل العراق، يسمون الحجاج مؤمنا؟!

وقال الثوري: عن ابن عوف، سمعت أبا وائل يسأل عن الحجاج: أتشهد أنه من أهل النار؟ قال: أتأمروني أن أشهد على الله العظيم؟

وقال الثوري: عن منصور: سألت إبراهيم عن الحجاج أو بعض الجبابرة فقال: أليس الله يقول: { أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } [هود: 18] .

وبه قال إبراهيم: وكفى بالرجل عمىً أن يعمى عن أمر الحجاج.

وقال سلام بن أبي مطيع: لأنا بالحجاج أرجى مني لعمرو بن عبيد، لأن الحجاج قتل الناس على الدنيا، وعمرو بن عبيد أحدث للناس بدعة شنعاء، قتل الناس بعضهم بعضا.

وقال الزبير: سببت الحجاج يوما عند أبي وائل فقال: لا تسبه لعله قال يوما: اللهم ارحمني فيرحمه، إياك ومجالسة من يقول: أرأيت أرأيت أرأيت.

وقال عوف: ذكر الحجاج عند محمد بن سيرين فقال: مسكين أبو محمد، إن يعذبه الله عز وجل فبذنبه، وإن يغفر له فهنيئا له، وإن يلق الله بقلب سليم فهو خير منا، وقد أصاب الذنوب من هو خير منه، فقيل له: ما القلب السليم؟ قال: أن يعلم الله تعالى منه الحياء والإيمان، وأن يعلم أن الله حق، وأن الساعة حق قائمة، وأن الله يبعث من في القبور.

وقال أبو قاسم البغوي: ثنا أبو سعيد، ثنا أبو أسامة، قال: قال رجل لسفيان الثوري: أتشهد على الحجاج وعلى أبي مسلم الخراساني أنهما في النار؟ قال: لا ! إن أقرَّا بالتوحيد.

وقال الرياشي: حدثنا عباس الأزرق، عن السري بن يحيى، قال: مر الحجاج في يوم جمعة فسمع استغاثة، فقال: ما هذا؟ فقيل: أهل السجون يقولون: قتلنا الحر، فقال: قولوا لهم: اخسؤوا فيها ولا تكلمون. قال: فما عاش بعد ذلك إلا أقل من جمعة حتى قصمه الله قاصم كل جبار.

وقال بعضهم: رأيته وهو يأتي الجمعة وقد كاد يهلك من العلة.

وقال الأصمعي: لما مرض الحجاج أرجف الناس بموته، فقال في خطبته: إن طائفة من أهل الشقاق والنفاق نزغ الشيطان بينهم فقالوا: مات الحجاج، ومات الحجاج، فمَهْ؟! فهل يرجو الحجاج الخير إلا بعد الموت؟ والله ما يسرني أن لا أموت وأن لي الدنيا وما فيها، وما رأيت الله رضي التخليد إلا لأهون خلقه عليه إبليس.

قال الله له: { إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ } [الأعراف: 15] ، فأنظره إلى يوم الدين.

ولقد دعا الله العبد الصالح فقال: { وَهَبْ لِي مُلْكا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } [ص: 35] ، فأعطاه الله ذلك إلا البقاء.

ولقد طلب العبد الصالح الموت بعد أن تم له أمره، فقال: { تَوَفَّنِي مُسْلِما وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [يوسف: 101] ، فما عسى أن يكون أيها الرجل، وكلكم ذلك الرجل.

كأني والله بكل حي منكم ميتا، وبكل رطب يابسا، ثم نقل في أثياب أكفانه ثلاثة أذرع طولا، في ذراع عرضا، فأكلت الأرض لحمه، ومصت صديده، وانصرف الخبيث من ولده يقسم الخبيث من ماله، إن الذين يعقلون يعقلون ما أقول، ثم نزل.

وقال إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني: عن أبيه، عن جده، عن عمر بن عبد العزيز، أنه قال: ما حسدت الحجاج عدو الله على شيء حسدي إياه على حبه القرآن، وإعطائه أهله عليه، وقوله حين حضرته الوفاة: اللهم اغفر لي، فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا علي بن الجعد، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن محمد بن المنكدر. قال: كان عمر بن عبد العزيز يبغض الحجاج، فنفس عليه بكلمة قالها عند الموت: اللهم اغفر لي فإنهم يزعمون أنك لا تفعل.

قال: وحدثني بعض أهل العلم قال: قيل للحسن: إن الحجاج قال عند الموت كذا وكذا، قال: قالها؟ قالوا: نعم ! قال: فما عسى.

وقال أبو العباس المري، عن الرياشي، عن الأصمعي، قال: لما حضرت الحجاج الوفاة أنشأ يقول:

يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا * بأنني رجل من ساكني النار

أيحلفون على عمياء ويحهم * ما علمهم بعظيم العفو غفار

قال: فأخبر بذلك الحسن، فقال: بالله إن نجا لينجون بهما.

وزاد بعضهم في ذلك:

إن الموالي إذا شابت عبيدهم * في رقهم عتقوهم عتق أبرار

وأنت يا خالقي أولى بذا كرما * قد شبت في الرق فاعتقني من النار

وقال ابن أبي الدنيا: ثنا أحمد بن عبد الله التيمي، قال: لما مات الحجاج لم يعلم أحد بموته، حتى أشرفت جارية فبكت، فقالت: ألا إن مطعم الطعام، وميتم الأيتام، ومرمل النساء، ومفلق الهام، وسيد أهل الشام قد مات، ثم أنشأت تقول:

اليوم يرحمنا من كان يبغضنا * واليوم يأمننا من كان يخشانا

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، أنه أخبر بموت الحجاج مرارا، فلما تحقق وفاته قال: { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام: 45] .

وروى غير واحد: أن الحسن لما بشر بموت الحجاج سجد شكرا لله تعالى، وكان مختفيا فظهر، وقال: اللهم أمتَّه فأذهب عنا سنته.

وقال حماد بن أبي سليمان: لما أخبرت إبراهيم النخعي بموت الحجاج بكى من الفرح.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا سليمان بن أبي شيخ، ثنا صالح بن سليمان، قال: قال زياد بن الربيع بن الحارث لأهل السجن: يموت الحجاج في مرضه هذا في ليلة كذا وكذا، فلما كانت تلك الليلة لم ينم أهل السجن فرحا، جلسوا ينظرون حتى يسمعوا الناعية، وذلك ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان.

وقيل: كان ذلك لخمس بقين من رمضان، وقيل: في شوال من هذه السنة، وكان عمره إذ ذاك خمسا وخمسين سنة، لأن مولده كان عام الجماعة سنة أربعين، وقيل: بعدها بسنة، وقيل: قبلها بسنة.

مات بواسط، وعفى قبره، وأجرى عليه الماء لكيلا ينبش ويحرق، والله أعلم.

وقال الأصمعي: ما كان أعجب حال الحجاج، ما ترك إلا ثلاثمائة درهم.

وقال الواقدي: ثنا عبد الله بن محمد بن عبيد، حدثني عبد الرحمن بن عبيد الله بن فرق، ثنا عمي، قال: زعموا أن الحجاج لما مات لم يترك إلا ثلاثمائة درهم، ومصحفا وسيفا وسرجا ورحلا ومائة درع موقوفة.

وقال شهاب بن خراش: حدثني عمي يزيد بن حوشب قال: بعث إلى أبو جعفر المنصور، فقال: حدثني بوصية الحجاج بن يوسف، فقال: اعفني يا أمير المؤمنين، فقال: حدثني بها، فقلت: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحجاج بن يوسف أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأنه لا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك، عليها يحيى، وعليها يموت، وعليها يبعث، وأوصى بتسعمائة درع حديد، ستمائة منها لمنافقي أهل العراق يغزون بها، وثلاثمائة للترك. قال: فرفع أبو جعفر رأسه إلى أبي العباس الطوسي - وكان قائما على رأسه - فقال: هذه والله الشيعة لا شيعتكم.

وقال الأصمعي، عن أبيه، قال: رأيت الحجاج في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: قتلني بكل قتلة قتلت بها إنسانا، قال: ثم رأيته بعد الحول، فقلت: يا أبا محمد ما صنع الله بك؟ فقال: يا ماص بظر أمه أما سألت عن هذا عام أول؟

وقال القاضي أبو يوسف: كنت عند الرشيد فدخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين رأيت الحجاج البارحة في النوم، قال: في أي زي رأيته؟ قال: في زي قبيح، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: ما أنت وذاك يا ماص بظر أمه ! فقال هارون: صدق والله، أنت رأيت الحجاج حقا، ما كان أبو محمد ليدع صرامته حيا وميتا.

وقال حنبل بن إسحاق: ثنا هارون بن معروف، ثنا ضمرة بن أبي شوذب، عن أشعث الخراز. قال: رأيت الحجاج في المنام في حالة سيئة، فقلت: يا أبا محمد ما صنع بك ربك؟ قال: ما قتلت أحدا قتلة إلا قتلني بها. قال: ثم أمر بي إلى النار، قلت: ثم مه؟ قال: ثم أرجو ما يرجوا أهل لا إله إلا الله.

قال: وكان ابن سيرين يقول: إني لأرجو له، فبلغ ذلك الحسن فقال: أما والله ليخلفن الله رجاءه فيه.

وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: كان الحسن البصري لا يجلس مجلسا إلا ذكر فيه الحجاج فدعا عليه، قال: فرآه في منامه، فقال له: أنت الحجاج؟ قال: أنا الحجاج، قال: ما فعل الله بك؟ قال: قتلت بكل قتيل قتلته، ثم عزلت مع الموحدين. قال: فأمسك الحسن بعد ذلك عن شتمه، والله أعلم.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا حمزة بن العباس، حدثنا عبد الله بن عثمان، أنبأ ابن المبارك، أنبأنا سفيان. قال: قدم الحجاج على عبد الملك بن مروان وافدا ومعه معاوية بن قرة، فسأل عبد الملك معاوية عن الحجاج فقال: إن صدقناكم قتلتمونا، وإن كذبناكم خشينا الله عز وجل، فنظر إليه الحجاج فقال له عبد الملك: لا تعرض له، فنفاه إلى السند فكان له بها مواقف.

وممن توفي فيها من الأعيان
 
عودة
أعلى